نزار السامرائي
بنت حكومة نوري المالكي سياستها الجديدة تجاه الحكومة السورية على أساس فرضية هي من ساهم بالنصف الثاني منها، ليكتمل مع النصف القادم من طهران والضاحية الجنوبية وقصر تشرين في دمشق، أن ما يجري في سوريا منذ آذار 2011 وحتى اليوم هو نتاج تدفق عناصر القاعدة من العراق إلى الداخل السوري من أجل زعزعة الوضع هناك خدمة لمخططات خارجية.
ولأن لطهران رأيا حاسما في الوقوف إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد لأسباب ليست بحاجة إلى تكرارها، فقد كان ممنوعا على المالكي أن يتعامل مع دمشق بعقلية الملفات المعتقة التي جعل منها هراوة غليظة مرفوعة فوق رؤوس كل من يشاركه السلطة أو ينافسه عليها، في إطار بدعة الديمقراطية التوافقية التي جلبها الأمريكيون معهم أثناء الغزو والذي نصّب على العراقيين حكاما لم يخجلوا من تكرار الحديث عن صناديق الاقتراع.
من دون مقدمات وقع الانقلاب السياسي المفاجئ داخل المنطقة الخضراء وحصرا في مكتب رئيس الوزراء بشأن الموقف من سوريا، فلملم المالكي ملف (تفجيرات الأربعاء الأسود) عام 2009، والتي استهدفت وزارة الخارجية والمنطقة الخضراء، بحيث دعا المالكي نفسه في حينها مجلس الأمن إلى عقد جلسة طارئة لمعاقبة النظام السوري وملاحقة رئيسه أسوة بما حصل بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، أي إحالة سوريا إلى محكمة جرائم الحرب الدولية، حينها انبرى مقربون من المالكي فقالوا في الأسد ما لم يقله مالك في الخمرة واتهموه باحتضان تنظيم القاعدة وتحريكه ضد العراق للإيغال بدم العراقيين، هؤلاء هم أصحاب الوجوه التي تظهر على الفضائيات هذه الأيام للدفاع باستماتة عن الزواج السياسي الجديد بين المنطقة الخضراء وقصر المهاجرين، لأن السيد الجالس خارج حدود البلدين أراد ذلك فقيل له سمعا وطاعة.
لكن هل كانت التهم الموجهة إلى سوريا والأسد كاذبة أصلا؟ أم أن الذاكرة باتت صدئة بحيث لم تعد تذكر تلك الوقائع أو لم تعد تذكر شيئا مما سبق لها أن وصفت النظام السوري بها؟ أم أنها كانت تبحث عن شماعات تعلق عليها إخفاقاتها الأمنية فترمي بالتهم يمينا وشمالا من دون دليل؟ فلم تكن هناك قناعة راسخة بتلك الاتهامات ولكن رغبة السلطان، سلطان الرغبات وما عليها إلا أن تنسج على منوال المالكي، حسنا لنفترض أن هذا أو جزء منه هو ما يحصل على الأرض، فكيف سوغ نوري المالكي لنفسه قطع طريق العودة عليها عن غيها وباطلها، لاسيما أنه يعرف أن طهران على استعداد لترمي به على قارعة الطريق، بل هي على استعداد للتضحية بألف واحد مثله، ولن تفرط بالرئيس السوري بشار الأسد، لأن الأخير يفكر بعقلية شامية حاذقة ولا يقطع الصلات التي تأمر بها طهران أن توصل، وهو يحكم وراثيا بلدا كان له الفضل الأكبر في تمديد حدود إيران الإستراتيجية لتطل على شرقي المتوسط ولتنطلق منها إلى أعالي البحار، في حين أن المالكي لم يقدم لها شيئا بل أحرج علاقاتها مع عملائها الآخرين في الساحة العراقية، حتى أصبح أكبر عبء على ولاية الفقيه ويزج بها في معارك لم يحن دورها، لأنه متفنن باختلاق الأزمات على الضد من رفيقه الأسد المتخصص بتقليص الأزمات الخارجية وتمرير العواصف المحملة بالغبار والأمطار السوداء.
كان يكفي أن تنطلق الانتفاضة في سوريا في آذار عام 2011 لتكون شارة البدء لاصطفافات إقليمية وربما دولية جديدة رسمت خارطتها في طهران وتم التصديق عليها في موسكو التي أرادتها حلبة صراع مع واشنطن للعودة إلى الساحة الدولية كمركز استقطاب ثان، ولكنه متعب اقتصاديا، جراء ذلك ذابت ثلوج كثيرة من الطريق الصحراوي الرابط بين دمشق وبغداد، وحاولت بغداد استعارة أسلوب المخادعة الإيرانية المحسن بمسحة شامية عصرية، فكانت في الوقت الذي تؤّمن للنظام السوري كل ما هو بحاجة إليه من إمدادات من السلاح والذخيرة وخبرة القتال الإيرانية عبر الطريق البرية الممتدة من طهران حتى دمشق والتي لا يمكن تجاوز محافظة الأنبار، وفي الوقت الذي تتجاهل مرور عشرات الطائرات المحملة بكل أدوات الموت عبر الأجواء العراقية، فإنها كانت تتغنى بما سبق أن أعلنه حزب حسن نصر الله اللبناني بالنأي عن النفس والذي اكتشف أنه كان شعارا كسابقه عن الحديث عن تحرير فلسطين، وكانت حكومة المالكي تتفق مع جهات الإمداد على إنزال واحدة من كل 100 طائرة تعبر الأجواء العراقية، شرط أن تكون محملة بالأدوية أو الملابس وربما بالزعفران أو المخدرات الإيرانية، يضاف إلى ذلك أن زيادة حجم الصادرات النفطية العراقية كانت أمرا ملحا من أجل تحول جانب كبير من مدخولاتها لتستقر في خزينة البنك المركز السوري لتدارك النفقات الهائلة للحرب ووقف تدهور سعر الليرة السورية.
كم هو جميل مرض النسيان أو فقدان الذاكرة السياسية خاصة، وإلا لهلكت الأوطان إذا لم تتمكن من تجاوز عقد الماضي وجروحه الغائرة وما تركته من أوجاع، وفقدان الذاكرة السياسية فن لا يستطيعه إلا من امتلك مهارات تفوق قدرة البشر، لا أحد يدري إن كان المالكي صادقا في اتهام بشار الأسد في الوقوف وراء المجازر التي شهدها العراق على مدى عقد من الزمان، ومع ذلك فمن حقنا أن نتساءل .. كيف تسنى له أن يكظم غيظه بل وحرقة قلبه المعلنة ورغبته بافتراس بشار إن كان يظن أن الأسد كان يريد تقويض ملكه من أجل الحفاظ على ملك آل الأسد في دمشق، ومع كل ذلك ابتسم بوجهه يوم زاره في دمشق طلبا لبركته في رئاسة الحكومة، وها هو اليوم يستقبل وزير خارجيته وليد المعلم بالأحضان، وقد تغيرت المعادلة فبات الأسد متوسلا ومتسولا الدعم، وكأنه يريد ثمنا لوقفته معه يوم لم يقف معه إلا القليل.
وليد المعلم وزير خارجية سوريا ينتمي لبلد اتهمه المالكي يوم 19/8/2009 بمجزرة الأربعاء الأسود والتي أرادت نسف مبنى وزارة خارجية المنطقة الخضراء، فوق رؤوس ساكنيها بمن فيهم هوشيار زيباري، ولكن مياها كثيرة مرت بنهر الفرات ويبدو أنها وعلى قلة ما يرد في النهر غسلت القلوب بمساحيق تنظيف إيرانية، فجاء المعلم المتهم في الماضي طلبا للدعم والعون من غريمه أو زميله (لا فرق) هوشيار زيباري المستهدف أصلا بعملية الأربعاء الأسود، والتي قال المالكي إن نظام الأسد يقف وراءها، وقال إن الإرهاب الذي تعاني منه سوريا هو نفس الإرهاب الذي يعاني منه العراق.
هل هذه حالة سكر معنوية من هول الضربات التي يتلقاها نظام دمشق؟ أم هي مفارقات الزمن الرديء والعجيب والذي يستعصي التصديق والقبول بها ما لم يخضع الإنسان لعملية تخدير عام وطويلة الأمد، ومع ذلك جاءت استجابة المالكي لطلبات ضيفه أسرع مما كان متوقعا وذلك عندما باشرت قواته البرية التي حشد لها 20 ألفا من الجنود وطائرات الهليوكوبتر، عملية الشبح في صحراء الأنبار الغربية من أجل تحقيق عدة أهداف أو بعضها إن تحقق منها شيء، فالمطلوب أولا فتح طريق الإمدادات العسكرية التي تستهلك منها قوات الأسد يوميا آلاف الأطنان من العتاد الحربي، والمطلوب ثانيا ضبط حركة الأفراد والجماعات على طرفي الحدود بين البلدين، والمطلوب ثالثا تسهيل نقل متطوعي لواء أبي الفضل العباس من العراق إلى سوريا تحت لافتة الدفاع عن مقام السيدة زينب في دمشق، والمطلوب أخيرا قمع الحراك الشعبي في محافظة الأنبار أو أي حراك يتعاطف ولو مجرد تعاطف قلبي مع الثورة السورية حتى إن كان لا يزودها بشيء من عوامل القوة والمنعة كما تفعل حكومة المالكي ودولة الولي الفقيه مع نظام الرئيس بشار الأسد.
عملية الشبح العسكرية في غرب الأنبار ليست أحسن حظا مما سبقها من عمليات شبحية في محافظة الأنبار أو غيرها من المحافظات الأخرى، والتي أريد لها رفع معنويات تصّفر رصيدها أو أوشك، ولكن هذا الاستنزاف الذي أدخل المالكي قواته فيه بطلب من قاسم سليماني ومباركة أمريكية سريعة جاءت على لسان بطل خطة تقسيم العراق نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، حينما بارك للمالكي في مكالمة هاتفية مطولة حددت مسار الحرب على الإرهاب للمرحلة القادمة، ويبدو أن المقصود منها أن تكون إيران وحزب الله اللبناني من بين أدواتها، ستؤدي إلى عكس ما أراده المالكي لها لأنها ستكشف حقيقة القوة التي يفاخر بها.
والحاصل، أننا في الوطن العربي ما نزال نتحرك على وفق ما تمليه علينا قرارات تتخذ خارج عواصمنا، ولا تحتاج إلا إلى مسحة ثورية مغالية إلى حدود غير معقولة في زمن ثورة الاتصالات، حتى إذا كانت ترتدي عمامة سوداء اسمها حسن نصر الله، فنلتقطها ونعتبرها قراراتنا حتى ولو كانت سكينا تحز به رقابنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق