نزار السامرائي
بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003 مع جيوش أكثر 20 دولة أخرى، خضع المجتمع العراقي لوصلات مكثفة من رسائل الدعاية الموجهة لرب الأسرة العراقية عن كيفية تربية أطفاله ونوعية اللعب التي عليه أن يوفرها لهم وتلك التي يجب عليه أن يحجبها عنهم، ويبدو أن بعض العراقيين من الأسرة الإعلامية أخذته الحمية العالية فتبنى هذه الفكرة ولم يعِ أبعادها السياسية وما ترمي إليه من تسيير للعراقي عبر جهاز سيطرة عن بعد وكأنه إنسان آلي، وانساق ينّظر لتحريم أية لعبة أطفال ترمز إلى معنى عسكري كالمسدس أو الدبابة أو الطائرة الحربية، وامتلأت صفحات الصحف وبرامج الإذاعة والتلفزيون وهي تلعن ثقافة العنف التي تربى عليها الطفل العراقي لعقود عدة بسبب توجهات الحكومات التي سبقت الاحتلال.
ولأننا أصحاب هبة سرعان ما تخمد، ولأن لدينا لكل موسم صرعته ونزواته ونغالي في ما يصلنا من صرعات الموضة في الملابس والسياسة، فقد بدا وكأن منظمات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام والمشتغلين بالسياسة في عراق ما بعد الاحتلال، باتوا لا يستطيعون السير في شوارع العراق أو طرقه الخارجية، ما لم يقدموا دليلا على نبذ فكرة اقتناء لعب الأطفال ذات الرموز الحربية، لأنها تنمي النزعة العدوانية عند الطفل وتخلق ثقافة العنف على مستوى المجتمع، فتداعت كل تلك الجهات إلى إقامة المهرجانات الخطابية للتبشير بالاكتشاف الجديد وهو أن لعب الأطفال يجب أن لا تتعدى نماذج الكلاب والقطط والقردة والخنازير والدببة، وأن احتفاليات علنية يجب أن يحضرها مفتشون دوليون وتغطيها كل فضائيات العالم للإشراف على تدمير أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها الأطفال العراقيون والعرب، وربما أصبحت نماذج الأسلحة هذه سببا بفرض عقوبات صارمة على الطفل الذي يمتلكها وعلى أسرته التي جلبت له تلك اللعبة، بحيث يبقى العراقيون أسرى القرارات الدولية للعقوبات السياسية والاقتصادية والدوائية والتسليحية كما تم فرض تلك العقوبات على العراق في عام 1990.
وذهب بعض كتابنا بعيدا في تبني هذه الفكرة حد الهوس وزايدوا على أصحابها الأصليين الذين جاءوا مع الدبابة بحيث تساءل المرء كيف تستقيم الدعوة لنبذ ثقافة العنف إذا كانت القوات الأمريكية تستخدم كل ما لديها من فوهات نارية لقتل العراقيين وخاصة الأطفال منهم، ثم تتحول إلى حمل وديع وتطلب من العراقيين عدم تقديم هدايا لأطفالهم من نماذج الأسلحة لأنها تخرب مزاجهم المستقيم وتحولهم إلى أشخاص عدوانيين، ولم يسأل أولئك الكتاب والمثقفون والصحفيون أنفسهم عن دوافع هذه الحملة المنسقة ولماذا تسوق لها دوائر غربية معروفة بارتباطها بالحركة الصهيونية، وجريا على نهج الكتّاب الأمريكيين والأوربيين في صب كل ما في مخزونهم من غضب على ما اعتبروه تنشئة مدمرة للأجيال الجديدة في العراق من خلال عسكرة لعب الأطفال، فإذا راقب المشاهد برامج الأطفال في فضائيات الحكومة وأخواتها، وجد أن الحديث ينصب على تكفير كل بيت يقتني أطفاله لعبا على هيئة بندقية أو دبابة أو طائرة حربية، حتى خاف العراقيون من أن الحكومة ستشمل مثل هذه الأحوال بالمادة 4 إرهاب، فالخطة كانت ترمي إلى إعادة صياغة المفاهيم التربوية ونسبة كل مشاكلنا وأسباب انقطاع الكهرباء وعدم توفر الماء الصالح للشرب وتفشي الفساد المالي والإداري بلعب الأطفال التي ترمز إلى السلاح، وكأن الحكومة حلت كل مشاكلنا ولم يبق غير لعب الأطفال.
ربما انطلت اللعبة على كثيرين من البسطاء الذين ينظرون إلى الأمور بعيون سياسية أمريكية وصهيونية، لكن من يمتلك الحد الأدنى من الوعي السياسي كان يعي جيدا، أن الجهات التي تقف وراء هذه (الحملة الحضارية) الرامية إلى نزع الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات والأسلحة الكيمياوية والبيولوجية التي يمتلكها أطفال العراق أو يسعون لامتلاكها ويهددون بها الأمن والسلام والاستقرار في العالم، لم تكن تفعل ذلك عن احترام كرامة الإنسان وحقه في الحياة الحرة الكريمة أو استقراره وأمنه، بل على العكس من ذلك تماما فهي تريد سلب قدرته على إنتاج الأفكار الوطنية القادرة على مواجهة التغريب الثقافي، لاسيما وأنها جاءتنا مع الاحتلال الأمريكي عام 2003 وكجزء من منظومة القيم المستوردة على أجنحة الطائرات الحربية التي ألقت فوق العراق من القنابل ما يزيد وزنه على ما ألقي على أوربا في الحرب العالمية الثانية، لقد أراد من تبنى هذه الأطروحة لها أن تسود وتطرد ما عداها من قيم يراد تنحيتها عن المجتمع.
فهل يحترم هذا المنهاج من أراد تصديره إلى العراق؟
الولايات المتحدة التي قادت العدوان على العراق منذ عام 1991 وحتى غزو عام 2003 هي النموذج الصارخ للتصادم بين ما تنفذه من جرائم ضد الإنسانية، وما تحاول بثه من أفكار وزرعه من قيم وممارسات في المجتمعات المغلوبة، كي تجردها نهائيا عن آخر ما لديها من رصيد قيمي خاص ينبع من تقاليدها الوطنية والدينية وتجعلها مجرد تابع يقلد من دون تفكير وبآلية عمياء ما يأتيه من الغرب وخاصة من الولايات المتحدة التي تطرح نفسها مجتمع الحلم الإنساني، مأخوذا بالانجازات التكنولوجية العلمية الباهرة وثورة الاتصالات التي تضيف كل يوم شيئا جديدا وما تتركه ثقافة الكانتاكي ومكدونالدز والكاوبوي من إعجاب بالنموذج الأمريكي المتفوق، ولكن المرء سرعان ما يصاب بصدمة حينما يكتشف بأن في الولايات المتحدة تعد البندقية الحقيقية وليست اللعبة، رمزا لشخصية اليانكي وهي أفضل هدية يقدمها الوالد لطفله وهو لما يزل في أولى مراحل عمره، من دون أن يقيم وزنا للنتائج التربوية التي ستترتب على سلوك الطفل من جنوح نحو الجريمة، وحل ما يصادفه من مشكلات عبر فوهة البندقية، ويتم في الولايات المتحدة إنتاج أنواع مختلفة ومغرية من البنادق وبألوان زاهية كي تستهوي الأطفال شأنها شأن الموبايل واللابتوب والألعاب الالكترونية، التي يتم طرح أجيال جديدة منها باستمرار، مع فارق بسيط هو أن الأجهزة الالكترونية لا تقتل بصورة مباشرة إن كانت تقتل، بل على العكس من ذلك فإنها تنمي المدارك وتوسع الأفق، ولعل حادثة قتل طفل أمريكي عمره خمس سنوات لشقيقته البالغة من العمر سنتين والتي تركت صدمة حزينة على مستوى العالم، ما يؤكد أن المجتمع الأمريكي يسعى لتسويق ثقافة متنحية هناك أصلا إلى وطننا العربي وهو أول من يحاربها داخل أمريكا نفسها.
كم كان عمر الطفل القاتل حينما جلب له أبوه بندقية الجريمة؟ ربما قبل سنة أو سنتين ومن يدري ربما كان ذلك بمناسبة عيد ميلاده الأول.
حينما حاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما تعديل قانون حيازة الأسلحة في بلاده بسبب كثرة حوادث القتل التي ترتكب هناك بأسلحة مجازة، فإن المواطن الأمريكي وكما عبر عن ذلك أشخاص ظهروا على شاشات التلفزيون، رفض تغيير منظومة القيم الأمريكية مهما كانت التضحيات.
حسناً، هل كنا مستغفلين حينما صدقنا أن الدعوة لمحاربة ثقافة العنف في بلادنا وفي الوطن العربي تبدأ من منع لعب الأطفال التي تشجع على اقتناء السلاح؟ وكأننا المستهدفون لوحدنا من هذه الدعوة التي تخفي وراءها عقولا صهيونية تريدنا أن نحول أطفالنا إلى قطط أليفة أو عصافير وديعة في أقفاص أنيقة لا تكترث لما يحيط بها، على حين أنهم يحتكرون السلاح وخبرة استخدامه من قبلهم فقط كي يحولوا الساحات التي يريدون فرض هيمنتهم عليها إلى جمهور لمتفرجي فلم سينمائي من إنتاج هوليود، ونتحول أيضا إلى ما يشبه أكياس التدريب على الملاكمة ونتلقى الضربات من دون أي رد فعل وكأننا مخدرون تحت وابل من الصرعات الاجتماعية والثقافية التي تتكرس عندنا بالتدريج من دون أن نشعر بخطرها الحقيقي علينا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق