بشير موسى نافع
يحتشد العراقيون بمئات الآلاف في ساحات مدن ست من محافظات العراق منذ الأسبوع الأخير من كانون الأول/ديسمبر الماضي. طوال المئة والعشرين يوماً من الاحتجاج الشعبي على سياسات التمييز والاضطهاد الطائفي التي ينتهجها نظام رئيس الحكومة المالكي، حرص المتظاهرون، ومن يؤيدهم من العلماء والوجهاء والقيادات العشائرية، على سلمية حركة الاحتجاج وانتظامها بصورة لم يعرفها العراق منذ عقود.
طوال مئة وعشرين يوماً، وعلى الرغم من المظلمة الثقيلة الواقعة على المحتجين، أحياناً بصفتهم الشخصية، ومن تجاهل المالكي ونظامه لمطالب الحركة الشعبية، لم تهاجم مؤسسة حكومية واحدة، لم تخرب منشأة، ولم يمس مسؤول رسمي موال كان للمالكي أو غير موال. ولكن رئيس الحكومة المعروف بتوجهاته الفاشية وهوسه الهائل بالحكم والسلطة وسيطرته المباشرة على وحدات الأمن والجيش الخاصة، كانت له توجهات مختلفة.
منذ البداية، سخر المالكي من الحركة الشعبية ومن المحتشدين في ساحات الفلوجة والرمادي وسامراء والموصل، وغيرها من مدن العراق. وصف المعتصمين بالطائفية، وبأنهم بعثيون وإرهابيون، وهددهم بالويل والثبور إن استمروا في اعتصامهم. في حادثة مبكرة، دفع المالكي قواته للاحتكاك بمعتصمي الفلوجة، موقعة عدداً من القتلى والجرحى في صفوفهم. ولكن وضوح الهدف، والوعي بما يسعى إليه رئيس الحكومة، دفع أهالي الفلوجة، المدينة الباسلة ورمز مقاومة العراق للاحتلال الأجنبي من أربعينات القرن الماضي، إلى لعق جراحهم والتأكيد على سلمية الحركة الشعبية. ولكن التحرش بالمتظاهرين من قبل قوات الأمن والجيش الخاصة لم تتوقف، سواء في بغداد، حيث يستخدم النظام آلاف العناصر الأمنية والعسكرية لمنع المتظاهرين من الاعتصام، أو في الموصل وسامراء، لم تتوقف قوات نظام المالكي عن محاولة استفزاز المتظاهرين باستخدام السلاح ووسائل العنف المختلفة. ولكن ما شهدته ساحة الاعتصام بمدينة الحويجة في ساعات الصباح الأولى من يوم الثلاثاء 23 نيسان/ابريل كان شيئاً مختلفاً. بصورة مفاجئة، وأغلب أهل المدينة والمعتصمين لم يزالوا نياماً، هاجمت قوات الأمن والجيش المرتبطة بالمكتب العسكري لرئيس الحكومة ساحة الاعتصام بالسيارات المصفحة، الرشاشات الثقيلة، والطائرات المروحية. خلال لحظات، تحول معسكر الاعتصام إلى ساحة حرب، لم يكن للشبان العزل من أي سلاح من فرصة فيها. في معركتها المظفرة ضد شبان الحويجة، أوقعت قوات المالكي أكثر من مئة جريح وعشرات القتلى، بعضهم، طبقاً لرواية الشهود، أعدموا ميدانياً.
خلال الأيام القليلة الماضية على هجوم قوات المالكي الغادر، شهدت الحويجة مناخاً من التوتر بين قوات نظام المالكي والمعتصمين، ولدته اتهامات قوات الأمن للمعتصمين بإيواء مسلحين والاحتفاظ بالسلاح في ساحة الاعتصام.
وافقت القيادات العشائرية وممثلو ساحة الاعتصام على السماح لقوات الشرطة بتفتيش الساحة بوجود مرافقين من النواب البرلمانيين عن المنطقة وشخصيات سياسية؛ وقد ساد الاعتقاد، مساء اليوم السابق على الهجوم الدموي، بأن الأزمة بين المعتصمين وقوات الأمن في طريقها للحل. ولكن الحقيقة أن الأزمة كانت مفتعلة أصلاً، وأن قوات الأمن والجيش الخاصة، بإشراف من مكتب المالكي العسكري ووزير دفاعه المؤقت وقائد أركانه، كانت تعد العدة لفض اعتصام الحويجة بالقوة ومهما كانت التكاليف. طبقاً لمصادر عسكرية عراقية، تحدثت لوسائل إعلام عربية، كان الهجوم على ساحة الاعتصام في الحويجة مقدمة لحملة واسعة لوضع نهاية لحركة الاحتجاج الشعبي بالقوة المسلحة؛ وقد اختيرت الحويجة هدفاً أولاً نظراً لأنها مدينة صغيرة نسبياً، وبعيدة عن المركز في بغداد وعن وسائل الإعلام، واعتصامها هو الأصغر عدداً مقارنة بالرمادي والفلوجة وسامراء.
بيد أن الحويجة هي مدينة ذات خصوصية لا يمكن تجاهلها. لا تمثل الحويجة مركز العشائر العربية الأهم في شمال العراق الشرقي وحسب، بل هي مدينة محافظة إلى حد كبير، أيضاً، ذات عصبية عشائرية صلبة، وبالغة التدين. ونظراً لأن العشائر العربية في المنطقة، من الجبور والعبيد، تعيش مناخاً من التدافع مع الإقليم الكردي منذ بداية الاحتلال، وربطتها علاقات حسنة بالعاصمة بغداد، فليس بين الحويجة والمالكي أية أحقاد خاصة.
جاء التحاق المدينة بحركة الاحتجاج الشعبي استجابة لمطالب الحقوق والمساواة ووضع نهاية لتهميش العرب السنة واستهدافهم والإفراج عن معتقليهم، التي نادت بها حركة الاحتجاج في أسابيعها الأولى. ولذا، فإن الهجوم الدموي الغادر على أبناء المدينة أثار ردود فعل ساخطة في الحويجة وجوارها، كما في أنحاء العراق الأخرى. خلال ساعات، خرج العراقيون، شعباً وليس تنظيمات حزبية، بالسلاح إلى شوارع المدن الثائرة والطرق الرئيسية، ونجحوا في بعض المناطق في السيطرة الكاملة على بلدات وأحياء. أدانت قطاعات واسعة من القيادات السياسية والدينية في البلاد، سنة كانوا أو شيعة، الهجوم على المعتصمين السلميين، وحمل بعضهم رئيس الحكومة المسؤولية الكاملة عن المجزرة التي أوقعت بالحويجة وشبانها.
بيد أن المالكي لم يتراجع، لم يعتذر، ولم يظهر أدنى مؤشر على الأسف. وما لبث الملتفون حول رئيس الحكومة، والأجهزة الإعلامية المرتبطة به، أن أطلقوا حملة جديدة ضد أبناء الحويجة ومئات الآلاف من المنخرطين في الحراك الشعبي: إرهابيون، قاعديون، بعثيون، وطائفيون.
ولم تتوقف الحملة عند العراقيين، بل طالت دولاً مثل تركيا وقطر، التي وصفت بأنها السبب خلف ما حدث في الحويجة، وأنها تنفذ مخططاً ‘صهيونياً’ لتدمير العراق والإقليم. بعد أيام قليلة، وقف المالكي، أحد أكثر السياسيين العراقيين طائفية على الإطلاق، خطيباً في مؤتمر عقد تحت إشرافه حول التقريب بين المذاهب، مندداً بعودة الطائفية إلى العراق، ومتهماً قوى إقليمية بتأجيج المناخ الطائفي! وليس لمن استمع للغة رئيس الحكومة العراقية سوى أن ينتظر خطوة أخرى باتجاه التصعيد الدموي وانفجار العنف؛ إذ أصبح معتاداً كلما تناول المالكي مسألة الطائفية أو اتهم بها جهة ما، أن يعقب الاتهام مجزرة أخرى في العراق. كما بشار الأسد، وكما أغلب المستبدين الفاشيست عبر التاريخ، يضع المالكي ثقته في وحدات الأمن وكتائب الجيش الخاصة، التي يغلب عليها طابع طائفي واحد وترتبط مباشرة بمكتب رئيس الحكومة، وفي أن عنف الدولة قادر في النهاية على هزيمة أي تحد يواجه النظام. ولذا، ففي حين حاول المحتجون طوال الاشهر الأربعة الماضية تجنب العنف والصدام مع أجهزة الأمن وقوات الجيش، كان المالكي يطلب العنف ويتوسل إليه.
اندلعت الأزمة الطاحنة التي يعيشها العراق اليوم من جذرين رئيسيين، أحدهما أولي، ويعود إلى النهج الذي اتبعته إدارة الاحتلال، بالتحالف والتفاهم مع القوى السياسية الشيعية، لبناء الدولة العراقية الجديدة؛ والثاني، طارئ، ويعود إلى سياسات المالكي الهوجاء بعد انفجار الثورة السورية.
بنيت دولة ما بعد الغزو والاحتلال باعتبارها دولة محاصصة بين فئات ومكونات، وليس دولة شعب عراقي واحد، يعيش تحت مظلة وطن واحد طوال أكثر من تسعة عقود. وبنيت الدولة الجديدة على فرضية أن الشيعة العراقيين يمثلون الأغلبية السكانية، وأنهم مكون ذو هوية منفصلة، وأن العراق لابد أن يحكم بنظام يحتل فيه المكون الشيعي موقع القيادة. وقد شكل هذان المعطيان الإطار المرجعي لكل خطوة اتخذت بعد ذلك في بناء الدولة، من النظام الانتخابي، توزيع مقاعد البرلمان على المحافظات، تجاهل الدعوات لإجراء تعداد سكاني، كتابة الدستور، سن القوانين الرئيسة المتعلقة بالإدارة السياسة للبلاد، وتشكيل الحكومات المختلفة…إلخ.
والمشكلة أن القادة السياسيين العراقيين الشيعة، الذين جاء أغلبهم للحكم من سنوات منفى طويلة، لم يستطيعوا الارتفاع إلى مستوى الزلزال الذي تعرض له العراق بفعل الغزو والاحتلال، وانتهجوا سياسة انتقام عمياء، استهدفت السيطرة الطائفية الكاملة على مقدرات الدولة والبلاد. تعرض الآلاف من كوادر السنة العرب، الأكاديمية والسياسية والعسكرية والعلمائية، للاغتيال، أطيح بالسنة العرب من معظم مواقع التأثير في الجامعات والوزارات الحساسة، وبصورة خاصة في أجهزة الاستخبارات وقوات الجيش، سواء بصورة مباشرة وفجة أو بتوظيف قوانين سيئة السمعة، مثل قانون تطهير البعث. وفي الوقت نفسه، وبينما تحمل المقاومون من السنة العرب العبء الأكبر في تحرير العراق من الاحتلال الأجنبي، اعتقل عشرات الألوف من الشبان والشابات السنة، تعرضوا وما زالوا لممارسات تعذيب بشعة، قدموا لمحاكمات صورية في أغلب الأحيان، أو أودعوا السجن بلا محاكمة لسنوات طوال؛ ويتم إعدامهم بالعشرات شهرياً بعد إدانات تشكك في مصداقيتها معظم المؤسسات الحقوقية الدولية.
هذا هو المناخ الذي رسبته السنوات العشر الماضية من تاريخ العراق الجديد، ولعبت إدارة المالكي لنظام الحكم في السنوات الست أو السبع الماضية دوراً رئيساً في تفاقمه. ولكن المالكي لم يكتف بهذا الدور، بل سارع بمجرد هبوب رياح الثورة العربية على سورية إلى إسراع الخطى لفرض سيطرته الطائفية على مقاليد الحكم والدولة؛ واعتقد، ربما، أن المسافة التي قطعها على هذا الطريق في السنوات القليلة الماضية كافية لاحتواء أية ردود فعل محتملة على إجراءاته الجديدة. لم يكن الأمر يتعلق بالسيطرة على قرار الجيش، والمحكمة العليا، ولجنة الانتخابات، والبنك المركزي، وحسب، بل ومطاردة السياسيين السنة البارزين أيضاً ومحاولة تدميرهم، ابتداء من نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، وليس نهاية برافع العيساوي. وكان مخطط القبض على الأخير، وهو نائب رئيس الحكومة نفسه، هو الذي أطلق شرارة الأزمة ورد الفعل الشعبي الكبير. وبخروج الشعب إلى الساحات، أدرك المالكي أن نظامه لم يكن محصناً بما يكفي، كما كان يظن. وأي نظام يمكن أن يحصن من غضب الشعب؟
ولأنه ليس بصدد إقامة نظام حكم عادل وحر وديمقراطي، لم يكن لدى رئيس الحكومة من استعداد لأن يتمهل قليلاً لتأمل الموقف، لاستعادة تجربة السنوات العشر، أو لتقييم سياساته الخاصة. خيار المالكي الوحيد هو العمل على إيقاع الهزيمة بالشعب، الخروج من الأزمة التي اصطنعها هو شخصياً بدون تراجع، وباستخدام أقصى درجات العنف، إن تطلب الأمر. ولذا، فالأرجح أن مجزرة الحويجة لن تكون الأخيرة في حرب المالكي على العراق وشعبه.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق