موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

الأربعاء، 11 يناير 2012

الانسحاب بعد إنجاز المهمة

هذه سلسلة من 3 حلقات، كتبها الأستاذ سليمان الحكيم، يستعرض فيها الأوجه المتحققة في مهمة غزو العراق الأميركية، مركِّزاً فيها على البعد الاقتصادي من تلك المهمة الإجرامية.




الانسحاب بعد إنجاز المهمة


سليمان الحكيم

1

بمجرد أن تبدد غبار تفجيرات يوم الحادي عشر من ايلول عام 2001 , بدأ التفكير الأميركي باحتلال بلد عربي لتحويله الى دولة نموذجية وفق معايير اليمين المتطرف الذي كانت رموزه تملأ جنبات البيت الأبيض ؛ ودارت المفاضلة بين مصر وسوريا والعراق فضلا عن ايران , ليقع الخيار في النهاية على العراق وذلك لعدة أسباب , فهو يملك أكبر مخزون نفطي في العالم , وموقعه الجغرافي مثالي للقواعد العسكرية , ونظام الحكم فيه قد ضعُف كثيراً بسبب تراجع قدراته العسكرية والاقتصادية تحت وطأة العقوبات الدولية , كما أن أرضه كانت مألوفة للجيش الأميركي بعد عدوان 1991 ؛ وقد بررت إدارة بوش غزوها للعراق بجملة أكاذيب منها حكاية أسلحة الدمار الشامل , ومنها مزاعم عن علاقة للعراق مع تنظيم القاعدة , ومنها عقيدة " الواحد بالمئة " التي ابتدعها نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ومؤداها أنه اذا كان تهديد صدام حسين لأمن الولايات المتحدة يمثل احتمالاً نسبته واحداً بالمئة , فعليها أن تتعامل مع هذا التهديد باعتباره مؤكداً بنسبة مئة بالمئة ؛ وكذلك واتت الرئيس بوش الفرصة لتحقيق ما كان صعباً قبل الحادي عشرمن ايلول , وهو شنّ حرب خارجية عمادها الشركات الأميركية الخاصة , وتكون فاتحتها قوة نارية تفاجيء العراقيين وتذهلهم و تمحو شخصيتهم وهويتهم لتتولى الولايات المتحدة إعادة بنائها من العدم كصفحة بيضاء, ولقد استخدم الأميركيون في تلك الحرب كل أساليب الصدم والترويع التي يملكونها عدا القنبلة النووية , و تمكنوا من تنصيب نظام حكم موال , لكنهم لم يخضعوا شعب العراق !
باستطلاع سيرة رجال إدارة الرئيس بوش , نكتشف بسرعة أن الهدف الحقيقي لغزو العراق كان اقتصاديا , فعلى سبيل المثال جاء دونالد رامسفيلد الى وزارة الدفاع بعد عشرين عاماً أمضاها في رئاسة الشركات المتعددة الجنسية , و قد أوكل لنفسه عشية انضمامه الى الحكومة مهمة محددة , هي اختراع حرب للقرن الحادي والعشرين تفتح ميادين لربح بلا حدود أمام الشركات الأميركية الكبرى مثل "بلاكووتر" و"هاليبرتون" و"بكتل" و"بيتشل" , وهو ما حدث فعلا , بل إن العقود الهائلة التي نالتها تلك الشركات في العراق قد فتحت شهيتها , فانخرطت في أعمال ليست من اختصاصها كالتحقيق مع السجناء والرعاية الصحية والتموين ! وعلى سبيل المثال أيضا كان ديك تشيني رئيساً لشركة "هاليبرتون" قبل أن يصبح نائباً للرئيس بوش , وقد استغل منصبه ليمنح "هاليبرتون" عقداً بمليارات الدولارات تولت بموجبه تأسيس كل البنية التحتية لعمليات الجيش الأميركي في العراق , لينحصر دور ذلك الجيش في توفير الجنود والسلاح , وقد لخصت الشركة طبيعة عملها بعبارة دالة مؤداها أن موظفاً لديها هو أول من يرحب بالجنود لدى وصولهم , وهو آخر من يلوّح لهم عند الوداع !
وقد حدث في ايلول 2003 أن وصل مطار بغداد بدعوة من وزارة الخارجية الأميركية , رجال من جنسيات مختلفة , كانوا خليطاً من رؤساء وزارة ووزراء مالية سابقين , و رؤساء بنوك مركزية , وكان منظر هؤلاء الكهول المتأنقين غريباً وقد اعتمروا الخوذات العسكرية وارتدوا الدروع الواقية من الرصاص , لينطلقوا بسرعة بالغة صوب المنطقة الخضراء حيث ألقوا محاضرات حول " نقطة التلاقي بين المصالح الاقتصادية والكوارث العظمى" , و" أسلوب التحول الى الاقتصاد الرأسمالي" , وذلك أمام مجموعة عراقية صغيرة اختارها بول بريمر , كان فيها أحمد الجلبي , وحسين الشهرستاني , وابراهيم بحر العلوم , ولؤي العرس ؛ وكانت محاضراتهم تخلص الى حتمية الالتزام بما أسمته بالثالوث السياسي وقوامه الغاء القطاع العام , ومنح الشركات حريتها الكاملة , والحدّ من إنفاق الدولة على الشؤون الاجتماعية ؛ وشرحوا نظرية بناء الاقتصاد الجديد القائم على اقتناص فرصة الفوضى للدفع بسياسات خصخصة شاملة تقلّص دور الحكومة , وتصفي مؤسساتها الانتاجية , وتسرّح العمال , وترفع الدعم الحكومي عن كافة السلع بما فيها الوقود والكهرباء والدواء والتعليم , وإلغاء كل أشكال الإعانات الحكومية للمواطنين ؛ وكان المحاضرون يطرحون أسئلة تحمل جوابها في ثناياها , على شاكلة لمَ يجب على اليونيسيف أن تعيد بناء المدارس في حين أنه بمقدور شركة " بيتشل " العملاقة للهندسة القيام بذلك ؟ ولمَ إشغال الجيش بحماية الشخصيات السياسية والمنشآت العامة في حين أنه بوسع شركة بلاك ووتر القيام بتلك المهمة ؟ وتطبيقاً لهذه الفلسفة , قامت وزارة الدفاع الأميركية في كانون الأول 2006 بوضع يدها على شركات القطاع العام العراقية وهي تلك الشركات التي سبق لممثل الاحتلال بول بريمر أن رفض تزويدها بمولدات الكهرباء باعتبارها من مخلفات المرحلة الستالينية ! غير أن جائزة الاحتلال الكبرى كانت الولايات المتحدة قد حصدتها مبكراً , فمنذ عام 2003 صاغت مشروع قانون جديد للنفط العراقي أتاح لشركات البترول الأميركية الحصول على مئات مليارات الدولارات من عقود مدتها ثلاثين سنة , ولم يضع ذلك القانون أي حدود للأرباح التي يمكن للشركات الأجنبية أن تخرجها من البلد , ولم يفرض أية شروط على نسبة الشراكة بينها وبين شركة النفط الوطنية العراقية , ولم ينص على توظيف العراقيين في صناعة النفط والأسوأ من ذلك كله أنه يمنع مجلس النواب من مناقشة العقود النفطية المستقبلية , وأوكل ذلك الى هيئة دعاها بالمجلس الاتحادي للنفط والغاز تديره مجموعة من الخبراء العراقيين والأجانب , ويتمتع هذا المجلس بصلاحية مطلقة لاتخاذ القرارات في كل ما يتعلق بالنفط العراقي بما في ذلك إبرام العقود والتصرف باحتياطيه المخزون في باطن الأرض ؛ والمفارقة أن بول بريمر لم يجرؤ وقتها على إقرار ذلك القانون تحسباً لردة فعل الشعب العراقي , لكن حكومات الاسلام السياسي التي لا تقيم وزناً لهذا الشعب , والتي لا تملك أن تتحدى الارادة الأميركية , أنفذت مشروع القانون هذا بمرسوم ديواني تحت إشراف السيد حسين الشهرستاني وراعيه السيد نوري المالكي , وكذلك أصبح نهب الثروة الوطنية الرئيسة في العراق , أمراً واقعاً تطلع عليه شمس كل يوم وتغيب عنه .

2


أصبحت أعمال إعادة الإعمار شعاراً عالمياً بعد أن لمست الشركات الأميركية التي دخلت سوق العراق , حجم الأرباح الهائلة الكامنة في تلك العملية , فأصبحت تلك الشركات بعد تجربة خصخصة الحرب في العراق , تسرح حرة في كل بقعة من الأرض تدور فيها حرب , أو تضربها كارثة طبيعية , وكذلك أصبحت مناطق العالم المنكوبة سوقاً جديدة للشركات الأميركية , قوامها تجارة السلاح , وتشكيلات عسكرية يقودها القطاع الخاص , وعقود مقاولات طافحة بالفساد ؛ وقد بدأت إرهاصات هذا الاقتصاد الجديد تطبع السياسة الأميركية منذ عهد الرئيس اليميني ريغان , لكن إدارة الرئيس بوش هي التي أرست قواعده وجعلت منه حقيقة ثابتة في سياسة الدولة الأميركية , كذلك كانت إدارة بوش أول من سلّم الملفات السياسية ذات الصلة بالعراق الى رؤوساء شركات , حققوا في وقت لاحق أرباحاً غير مسبوقة من الحرب على ذلك البلد , فعلى سبيل المثال ترأس وزير الخارجية السابق جورج شولتز منذ العام 2000 ما سمي بلجنة تحرير العراق , وقد كتب في ايلول 2002 مقالا بعنوان " تصرفوا الآن فالخطر وشيك " تحدّث فيه عن خطر يمثله الرئيس صدام حسين – رحمه الله – على الأمن الأميركي , وشبهه بالأفعى التي يجب سحقها قبل أن تلدغ ؛ ولكن شولتز لم يذكر في مقاله أنه كان في ذلك الوقت المدير التنفيذي لشركة " بكتل " التي حققت أرباحاً تزيد عن ثلاث مليارات دولار من عقود إعادة إعمار البلد الذي كان قد دعا الى تدميره ! كان مطلب الإدارة الأميركية أن يصبح العراق حقلا للتجارب تحجز الصف الأول فيه الشركات الأميركية دون سواها , وذلك في رحلة السعي وراء المليارات السهلة , ولقد اتسمت تلك التجارب بمقدار من القسوة والتطرف الى حدّ وصف فيه كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي قوانين بول بريمر بالصدمة الأكثر تطرفاُ من تلك التي تلقاها الاتحاد السوفييتي غداة انهياره ! ولم يكن بول بريمر مؤهلا لتشريع قوانين تتعلق بالتجارة والاستثمار , لكنه كان يستلمها مباشرة من وزارة الدفاع بالبريد الالكتروني , ليطبعها ويوقعها ثم يفرضها كأمر واجب النفاذ على الشعب العراقي, لقد كان بريمر في واقع الأمر رسول الشركات المتعددة الجنسية حاملة لواء خصخصة الحرب في العراق , قبل أن يكون مبعوث السياسة الأميركية , وذلك بدلالة الحضور الضعيف للدولة الأميركية في العراق , مقارنة بالحضور القوي لتلك الشركات ؛ فلم يحدث أن اعتُبرت وظيفة واحدة حيوية بحيث لا يمكن تسليمها لواحد من المقاولين أو المتعهدين الأميركيين .
كان الاقتصاد العراقي قبل العدوان الأميركي عام 1991 من أكثر اقتصادات المنطقة تطورا , ولقد كان مطلب تدميره على رأس أهداف غزو البلد عام 2003 , فجرى وقف كل شركات القطاع العام العراقية عن العمل – وعددها مئتا شركة – مع أنها كانت مؤهلة تماما لإعادة تشغيلها ورفد السوق باحتياجاته بأسعار رخيصة , فضلا عن تأمينها العمل لآلاف العراقيين , ثم حوربت تلك الشركات من جهتين , من بول بريمر الذي رفض تزويدها بمولدات الكهرباء , وحظرعلى البنك المركزي تمويلها , وحوربت أيضا من شركات الإعمار الأميركية التي لم تكتف باستيراد المواد الأولية بكلفة عشرة أضعاف أسعار المنتج العراقي , وإنما استوردت أيضاَ اليد العاملة الأجنبية , فلم يزد مجموع العراقيين الذين عملوا في مشاريع إعادة الإعمار عن الخمس عشرة ألفاً , يقابلهم عشرات الألوف من العمال الأجانب تم جلبهم من سائر أنحاء الأرض ؛ ولم يسلم القطاع الخاص العراقي هو أيضاً من تلك الهجمة , فراحت شركاته تقفل أبوابها واحدة تلو الأخرى بسبب عجزها عن منافسة الواردات المتدفقة عبر الحدود المفتوحة على مصراعيها , وقد روى لي صديق من كبار الصناعيين , أن مساعداً لبول بريمر اجتمع بنخبة من الصناعيين العراقيين ليقول لهم أن منافسيهم الأجانب لم يدخلوا العراق بقوة السلاح , وإنما بخبراتهم وكفاءتهم , وأنه يفهم أن الإنتاج العراقي لن يتفوق على المنافسة الأجنبية , وأن قانون السوق سيبقي الأفضل من بينهم فقط على قيد الحياة , ثم أضاف بلهجة مسرحية : وهنا بالذات تكمن روعة السوق الحرة ! وفي واقع الأمر لم يجر تحطيم الصناعة العراقية لأسباب تتعلق بها , ولكنه كان هدفاً لعقيدة جديدة جاءت لتغزو وتسيطر وتنفرد بالسوق بعد إخلائه من أصحابه الشرعيين ؛ لقد أقصي العراقيون بصورة منهجية عن كل الأعمال الميدانية المتعلقة بإعادة الإعمار , وبدا منظر توافد الآلاف من العمال الأجانب لتلقف فرص العمل لدى المقاولين الأميركيين , امتداداً طبيعياً لتدفق عشرات الألوف من قوات الغزو لإحياء زمن استعماري ظن العالم أنه صفحة طويت من تاريخ البشرية ؛ لم تكن تلك عملية إعادة إعمار بقدرما كانت عملية تدميرـ بِيعَ فيها القطاع العام العراقي بالجملة , وأبيدت فيها الصناعة الوطنية التي كانت مصدر اعتزاز وطني عارم .

3

فرضت الإدارة الأميركية على العراق نهجها اليميني المحافظ الذي التي يلغي دور الدولة الاجتماعي تجاه الطبقات الضعيفة والفقراء والعاطلين عن العمل , ويهدر حقوقهم الثابتة منذ نصف قرن والتي تمولها ثروة بلدهم , في التعليم المجاني والطبابة والسكن اللائق , وأسس الأميركيون لاقتصاد تابع قوامه الطبقة الجديدة التي تسلقت الهرم الاجتماعي عقب الاحتلال , وهي طبقة طفيلية غير منتجة ولا تحسن سوى دور الوسيط التابع للشركات المتعددة الجنسية ؛ وقد انصاعت الحكومات العراقية جميعها لتلك الاملاءات الأميركية , بدءاً من حكومة السيد أياد علاوي , مروراً بحكومة – القوي الأمين – ابراهيم الجعفري , وانتهاء بحكومة السيد نوري المالكي , وبالطبع بمباركة شركائهم الأكراد ومن القائمة العراقية ؛ فقد تبنت تلك الحكومات فلسفة السوق وقوانينها , فألغت جميع القيود التي تعرقل تراكم الأرباح , وأقرّت مبدأ بيع أصول الشركات الحكومية بما في ذلك الرابحة منها , وقلّصت تمويلها للبرامج الاجتماعية الى الحدود القصوى ؛ فعلى سبيل المثال جرى شطب ثلثي مفردات البطاقة التموينية , بل إن وزراء حزب الدعوة – المتخمين – قد طالبوا بإلغائها ؛ وعلى سبيل المثال أيضا تقلصت ميزانية التعليم الى حدود عجزت معها عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب , وامتلأت الشوارع بالأطفال المتسربين من المدارس , وأصبح قانون التعليم الإلزامي الذي كان مفخرة للعراق , من مخلفات "عهد بائد" , وانحدرت قيمة الشهادة العلمية العراقية الى مستويات فاضحة , واتساقاً مع فلسفة الخصخصة جرى إحياء التعليم الخاص الذي كان العهد الوطني قد أممه بعد إقرار مجانية التعليم بكل مراحله , فضلا عن اعتباره التعليم الخاص رمزاً للفوارق الطبقية التي كان الشعب يطالب بتذويبها , ولكن تلك الفوارق عادت اليوم في عهد الاسلام السياسي , للتباعد بما لا يقاس عما كانت عليه في العهد الملكي , فراحت الطبقة الوسطى العراقية تتآكل , وبات المجتمع العراقي منقسماً الى طبقتين , أقلية فاجرة الثراء , وغالبية عظمى مسحوقة .
كذلك جرى إلغاء الضريبة التصاعدية , وتم إقرار الضريبة الموحدة التي تساوي بين الغني والفقير , وسُنّت قوانين جديدة للتجارة والاستثمار أتاحت للشركات الأجنبية اختراق السوق العراقية بحرية كاملة وذلك بالتزامن مع رفع الحماية الكمركية عن منتجات الصناعة الوطنية ؛ كذلك ألغي قانون الرقابة على الأسعار , وقانون الحد الأدنى للأجور , وأوكلت تلك المهام – التي تتعلق بها حياة الفقراء – الى توازنات قوى السوق ؛ وإذا ظلت السلطة متداولة بين النخبة السياسية الحالية , فسيأتي يوم تُخصخص فيه الرعاية الصحية , وخدمة البريد , والتعليم بكل مراحله , والطرق السريعة, وحتى المتنزهات الوطنية.
لقد تعاملت إدارة بوش مع العراق عقب احتلاله , باعتباره منجماً للأرباح الاستثمارية , فلست أظن أن أحداً يصدّق حكاية حرص الأميركان على الفوز بقلوب العراقيين وعقولهم , فليست تلك مهمتهم الحقيقية في بلدنا , ولكن كان هدفهم تركيع العراق وكسر مقاومته , وتسليط نظام حكم عميل يرضى بشراكة غير متكافئة بين القوة الأعظم في العالم , وسلطة فاشلة على بلد شبه مدمّر , تدور على أرضه بالكلمات وبالرصاص حرب طائفية وعرقية ؛ كان اقتصاد العراق قبل الغزو الأميركي يرتكز على شركة النفط الوطنية ومعها مئتي شركة للقطاع العام تنتج السلع الغذائية , والمواد الخام الصناعية , والاسمنت , والورق , وزيت الطعام , الى جانب الزراعة والتجارة ومشروعات الرأسمال الوطني ؛ وقد جاء الغزو ليبدد ذلك كله , ويمحو الفلسفة التقدمية التي قام على ضوئها ذلك الاقتصاد ؛ ففي الشهر الأول لوصوله الى بغداد أعلن بول بريمر أنه ستتم فوراً خصخصة شركات القطاع العام المائتين ؛ ثم أصدر قوانينه الاقتصادية الجديدة التي زعم أنها ستجذب المشترين الأجانب ليشاركوا في مزاد الخصخصة , ولينشئوا مصانع جديدة ومحلات بيع التجزئة , وقد خفضت قوانين بريمر معدل الضرائب على الشركات الخاصة من 45% الى 15% , وسمحت للشركات الأجنبية بتملك ما نسبته 100% من أية أصول عراقية , وأتاحت للمستثمرين تحويل كل أرباحهم من العراق دون إبقاء نسبة منها لإعادة استثمارها , وحالت أيضاً دون تحميلهم أية أعباء ضريبية , كذلك منحت قوانين بريمر المستثمرين الحق بتوقيع عقود إيجار لمؤسسات القطاع العام لمدد تصل الى أربعين سنة , مما يعني تحميل الحكومات العراقية اللاحقة العبء الاقتصادي والقانوني لتلك العقود , وكذلك حوّل الغزو الأميركي العراق الى سوق مخصخصة بالكامل جرى تمويلها بواردات من النفط العراقي بلغت قيمتها عشرين مليار دولار لم يذهب سنت واحد منها الى مصانع العراق لتمكينها من إرساء أساس اقتصاد دائم وقابل للحياة والتطور , ولخلق فرص عمل للمواطنين , ولإنشاء شبكة أمان اجتماعي , ذلك أنه لم يكن للعراقيين أي دور أو رأي في تلك العملية , وقد وجدوا أنفسهم محاصرين بدور المشاهد المذهول , من التكنولوجيا العسكرية الأميركية أولا , ومن تكنولوجيا الهندسة والإدارة ثانيا .
عندما أوقفت شركة "بكتل " أعمالها وغادرت العراق في نهاية عام 2006 , كانت تعزو عدم إتمامها للمشاريع التي تعاقدت عليها الى تفشي العنف في البلد , والحقيقة أن فشل هذه الشركة كان جلياً قبل انفجار عاصفة العنف الطائفي التي ضربت العراق في تلك السنة , فالمدارس التي أنشاتها كانت بمواصفات متدنية ومخالفة للشروط , ومستشفى الأطفال المركزي في بغداد الذي تعاقدت على تجديده , كانت شبه متوقفة عن العمل , فقد حولت تلك الشركة أموال عقودها في العراق الى حساباتها الخارجية , ثم راحت تبيع مقاولاتها الى متعهد محلي بثمن بخس ؛ ومثلها أيضاً شركة " بارسونز" التي تلقت حوالي مئتي مليون دولار لبناء مئة واثنين وأربعين عيادة صحية , لم ينجز منها إلا ست عيادات ؛ ومن كل ثمانية مشاريع نفذها مقاولون أميركيون , كان سبعة منها مخالفاً لمواصفات التصميم المطلوب ! وكذلك استمر هذا الاحتيال طيلة ثلاث سنوات ريثما غادرت آخر شركة أميركية العراق , وقد قبضت ملايينها دون أن تنجز أعمالها , ولم يكن فساد تلك الشركات ونهبها للمال العراقي , إلا نتيجة لإلغاء نظم الرقابة الحكومية والقوانين التي كانت تحكم الاقتصاد العراقي إبان " العهد الديكتاتوري " , وللقرار الأميركي بتحويل البلد الى حقل استكشاف جديد للرأسمالية الغربية المتوحشة .
.................................
.................................
انسحب الاحتلال الأميركي حقاً من العراق , ولكنه أنجز المهمة التي جاء من أجلها , فقد استطاع أن يمسخ العراق من دولة ذات هوية تاريخية عربية , وقائدة في مجالها الاقليمي , مستقرة بتحالف وطني لقواها الاجتماعية , الى كيان هلامي تتنازعه الطوائف والأعراق , وتتهدده كل القوى الاقليمية بما فيها دولة بقيمة الكويت ؛ ونجح الاحتلال في تحطيم الاقتصاد العراقي الذي كان يوازن التباين الاجتماعي ويقلص من حدته , لينشيء اقتصاداً تابعاً تحكمه قوى السوق المنفلتة من كل عقال والتي لا تعنيها احتياجات ومطالب الفقراء ؛ لقد انحدر الاحتلال بالعراق من دولة رفاهية وكفاية , الى دولة رأس المال الطفيلي المتحالف مع طبقة رجال الدين . كان العراق عقب العام 2003 بحاجة ماسة الى عملية إصلاح وإعادة بناء كان يُفترض أن يديرها العراقيون وحدهم , ولكن تحالف سلطة الاحتلال مع أتباعها القادمين من خلف الحدود حوّل البلد الى مختبر رأسمالي ترسم فيه مخططات العنف الطائفي , وتطبق عليه سياسات اقتصادية أدت الى تفشي بطالة غير مسبوقة بين أهله سدّت أمامهم فرص الرزق وحرمتهم من العدالة , لتمنح حصانة غير مبررة للمحتلين الأجانب ؛ كانت الكارثة التي وقعت في العراق سببها الطمع الرأسمالي الغربي والسلطة العراقية الفاسدة , ولئن كان ما سمي بإعادة إعمار العراق فشلا كبيراً انعكس فقراً وتخلفاً وانحداراً أخلاقياً على المجتمع , فإنه لم يكن كذلك للأميركيين وأتباعهم المعششين في الدولة العراقية , إذ انعكس عليهم ثراء فاحشاً, وسلوكاً اجتماعياً فاضحاً , واحتقاراً شعبياً تنطق به العيون قبل الألسنة , وحساباً عسيراً عسى ألا يطول انتظاره .

ملاحظة:
نشرت الحلقة الأولى هنا
والثانية هنا
والثالثة هنا


ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..