حمد الله صياد وجمال عبدالناصر

في هذا المقال، يسرد الفريق عبدالله المؤمن ذكرياته عن مشاركة الجيش العراقي في حرب يونيو/ حزيران 1967، على الجبهة المصرية، ولقاء الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، رحمه الله.

انها ذكريات جميلة وتفصيلية، معززة بالصور وتتميز بالدقة، اختصَّنا بها السيد الفريق المؤمن، وننشرها اعتزازاً بكاتبها وكجزء من الاحتفاء بذكرى تأسيس جيش العراق الباسل الأصيل.

من مآثر الجيش العراقي الباسل

حمد الله صياد وجمال عبد الناصر

الفريق عبدالله المؤمن

دخلت الكلية العسكرية مصنع الابطال في 17/10/1964 وأكملنا السنة الاولى ( صف المستجد ) هكذا تسميته في الكلية في 14/تموز/1965 وبعد عطلة صيفية لمدة شهرين بدأت السنة الثانية (صف المتوسط ) وأكملنا السنة الثانية في 14/تموز/1966 واعطيت لنا عطلة صيفية لمدة شهر واحد لتبدأ السنة الثالثة ( صف المتقدم ) ان التسميات المشار اليها انفا لها قيمة عند تلاميذ الكلية لايمكن مسحها من الذاكرة لما فيها من قصص طريفة وعنيفة بنفس الوقت وفي هذه السنة قلصت الفترة الزمنية المقررانتهائها في 14/تموز/1967 وكثفت المناهج التدريبية وتنوعت من التدريب التعبوي المعتاد والتدريب على الحروب الجبلية والتدريب على القتالات الخاصة (دورة الصاعقة) وكانت هذه الدورة من اشد انواع التدريب العنيف لأن هذا الصنف كان حديث التشكيل في الجيش وضباطه من اكفأ الضباط ومن اهم التمارين فيها هو تطعيم المعركة ( بالعتاد الحي ) وتم تقديم موعد التخرج الى 6/كانون ثاني/1967 الذي يصادف عيد تأسيس الجيش العراقي الباسل وتم تنسيبي الى صنف المشاة ( سيد الصنوف ) كما يطلق علية القائد الانكليزي المشهور مونتيغمري خصم القائد الالماني المشهور رومل الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية في شمال افريقيا وتم تعييني في الفرقة الرابعة التي كان معسكرها الدائم في الموصل  وبعد اجازة لمدة 10 ايام التحقنا الى الفرقة وقد التقى بنا قائدها شيخ الجيش العراقي الفريق الاول الركن عبد الجبار شنشل وكان في حينه برتبة لواء ركن والقى فينا كلمة توجيهية وتوصيات مهمة ثم اشتركنا في دورة تعبوية في مقر الفرقة بعدها جرى توزيعنا الى الافواج وكان نصيبي الفوج الثالث لواء المشاة الثامن عشر كان في حينها في منطقة بيباد في قاطع العمادية حيث تم توجيهنا من قبل امر الفوج العقيد دحام عبد القادر النعيمي ونسبت الى السرية الثانية ولكن لم ابق في هذا الفوج الا فترة قصيرة حيث اجريت تبادل نقل مع ضابط ينتسب الى الفوج الاول لواء الاول ( فوج موسى الكاظم ) اول فوج شكل بالجيش العراقي كان في حينها في قاطع اربيل التحقت به يوم 2 ايار1967 وقبل نهاية شهر ايار، وتحديدا في  25 ايار1967 صدرت الاوامر من وزارة الدفاع بحركة الفوج الى بغداد بعد التنقل عسكر الفوج في كلية الضباط الاحتياط في معسكر الرشيد مقابل قاعدة الرشيد الجوية، وفي صباح اليوم الثاني لوصول الفوج الى معسكر الرشيد عقد امر الفوج المقدم الركن طارق محمود جلال مؤتمر لايضاح اسباب قدومنا الى معسكر الرشيد حيث استدعيَ مساء اليوم السابق الى ديوان وزارة الدفاع واستلم التوجيهات وموجز عن مهمة الفوج المقبلة، وبعد الترحيب بامري السرايا حيث كنت امرا للفصيل الثاني وامرا للسرية الاولى  بالوكالة  (شرح  مختصر الاوامر ان وزارة الدفاع وقع اختيارها على الفوج الاول لواء المشاة الاول لارساله الى الجمهورية العربية المتحدة ليمثل الجيش العراق الباسل في اي واجب قتالي في سيناء وكان من ضمن التوجيهات تدريب الفوج على الاركاب والترجل في طائرات النقل العسكرية واكمال ملاك الفوج من الاشخاص من الضباط والجنود واكمال نواقص الفوج من التجهيزات العسكرية واستثناء الجنود الغير لائقين بدنياً من السفرمع الفوج).

وبعد انتهاء مؤتمر الاوامر بدا الفوج مثل خلية النحل كل امري السرايا والفصائل يعملون بشكل غير اعتيادي لإكمال النواقص ( من ضمن منتسبي الفصيل الثاني كان جندي اول اسمه حمد الله صياد عدد رشاشة دكتريوف كان قصير القامة نحيف البنية مسيره غير طبيعي لاصابته باطلاقه في ساقه من قبل البيشمركة في قاطع سرسنك عندما كان الفوج في ذلك القاطع ) كان حمد الله صياد من محافظة الناصرية استدعيته واخبرته بأن الاوامرتقضي ببقائك في بغداد مع المتروكين من الفوج – كان جوابه مايلي اني جندي اول حمد الله صياد عدد رشاشة دكتريوف عندما كان فصيلنا في ربايا سرسنك محاصر لمدة شهر ونصف من قبل البيشمركة وناكل العشب واصبت في ساقي بطلقة وما استسلمنا للعصاة  هسة ماتاخذوني وياكم اريد مقابلة امر الفوج وفعلا قابله امر الفوج ولكن لم يقتنع وقال بالحرف الواحد: شكول (ماذا أقول) الى اهلي وعشيرتي من اذهب اجازة؟ قلت له: هذا امر يبنغي تنفيذه .

استمر الفوج بالتدريب على الاركاب والترجل في الطائرات وتقرر السفر يوم 31 ايار1967 الى مصر وخلال هذه الفترة اقام وزير الدفاع شاكر محمود شكري دعوة غداء على شرف الفوج في النادي العسكري حضرها رئيس اركان الجيش اللواء حمودي مهدي وامر اللواء العقيد الركن خليل ابراهيم محمود اغا والملحق العسكري المصري في بغداد .

وزير الدفاع في الوسط على يساره رئيس اركان الجيش على يساره امر الفوج على يمين الوزير الملحق العسكري المصري على يمينه امر اللواء بقية ضباط الفوج المؤشر عليه بالسهم الفريق عبدالله المؤمن
التقطت في النادي العسكري في بغداد قبل حركة الفوج الى مصر .

صباح يوم 31 ايار 1967 اقيم للفوج حفل توديع مهيب في قاعدة الرشيد الجوية حيث اصطفت خمسة طائرات نقل نوع اوكرانيا على ارض المطار وامامها وقفت الوجبة الاولى من الفوج بتشكيل النسق وحضر رئيس الجمهورية الفريق عبد الرحمن عارف وكبار ضباط الجيش وعزف المرسوم الجمهوري وأدى الضباط التحية، وبعد ذلك قام رئيس الجمهورية بتفتيش الوجبة الاولى واثناء  التفتيش حدث مالم لم يكن في الحسبان حين قال( الجندي الاول حمد الله صياد يجب ان اكون معكم حيث كان يرتدي قيافة المعركة كاملة ويطغه (تجهيزاته العسكرية) فوق حقيبة الظهر وحال اجتياز رئيس الجمهورية للسرية الاولى وبسرعة فائقة ركض من بين المدعوين وصعد الى الطائرة الاولى التي كانت مخصصة للسرية الاولى ) ابى هذا الجندي الا ان يكون مع اخوانه في الفوج – هكذا كانت شيمة جنود الجيش العراقي الباسل لايهابون الموت واثناء مرور الطائرات فوق شبه جزيرة سيناء قرب مدينة السويس شاهدنا الدفاعات في تلك المنطقة وحطت الطائرات في مطار عسكري شمال مدينة السويس اسمه مطار كبريت وبعد الهبوط والترجل جرى نقلنا بالعجلات الى قاعدة فايد الجوية غرب البحيرات المرة جنوب مدينة الاسماعلية بحدود 30 كيلومتر.

في اليوم الثالث تكامل تنقل الفوج يوم 2 حزيران1967 ويوم 3 حزيران ذهب امر الفوج بصحبته امري السرايا الى قاطع خان يونس لغرض الاستطلاع حيث تقرر ان يمسك الفوج قاطع دفاعي هناك يوم 4 حزيران جرى تحميل اثقال الفوج في عربات نقل السكة الحديد وتقرر حركة الفوج ليلة 4/ 5 حزيران الى خان يونس وفي المساء تلقى الفوج برقية بوصول رئيس الوزراء اللواء طاهر يحيى الى القاهرة ورغبته باللقاء بمنتسبي الفوج قبل استلام مهمته.

كانت الاحداث السياسية والعسكرية تتسارع حيث طلبت القيادة المصرية سحب قوات المراقبة الدولية من خط الحدود المصرية الاسرائيلية واستمرت القوات المصرية بالتدفق نحو الشرق باتجاه سيناء عبر جسر الدفرسوار في وسط قناة السويس في مدينة الاسماعيلية لذا تاجلت حركة الفوج من ليلة 4/5 حزيران الى ليلة 5/6 حزيران كانت حركة الطائرات المقاتلة  طيلة ايام 31 ايار و1/2/3/4 حزيران مستمرة بدون انقطاع ابتداء من الضياء الاول حتى الضياء الاخير، وكان مدرج قاعدة فايد الجوية لايبعد اكثر من 200 متر عن مكان اسكان الفوج كنا نشاهد اصطفاف الطائرات المقاتلة على (الدسبرسل) وهي محملة بكامل اسلحتها كانت من انواع ميغ 21 وميغ 19 وميغ 17 .

في صباح يوم 5 حزيران لم نشاهد حركة الطائرات المألوفة كما في الايام السابقة وفي تمام الساعة 900 يوم 5 حزيران ذهب امر الفوج الى القاعدة الجوية حيث كان من المقرر وصول رئيس الوزراء بحدود هذا الوقت، وفي الساعة 910 اقتربت الطائرة وبدأت بالهبوط على المدرج، وفي تمام الساعة 920  ترجل رئيس الوزراء من الطائرة، وفي هذا الوقت بالذات شاهدنا 12 طائرة مقاتلة على ارتفاع منخفظ جدا بدأت بقصف المدرج فكانت مفاجأة لانعرف ماذا يحدث، وماذا نفعل؟ فأصدرنا امراً سريعاً بتفريق الفوج والانتشار لتفادي وقوع اي خسائر، واستنتجنا ان الحرب بدأت.

وصل رئيس الوزراء وبرفقته وزير الدفاع ووزير الوحدة والتقى بضباط الفوج واستمرت الغارات الجوية بدون توقف حتى الضياء الاخير وكان عدد الغارات بلغ 12 غارة جوية على قاعدة فايد الجوية وكنا نشاهد الطائرات المقاتلة الجاثمة على الارض تحترق ولم يسلم منها الا عدد قليل جدا، وبدأت المحطات الاذاعية تعزف المارشات العسكرية بشكل متواصل واستمرت الغارات الجوية على هذه الصورة للايام 5/6/7/8/9 حزيران – عندما كنا ندرس التاريخ العسكري لحرب شمال افريقيا بين دول المحور والحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية كان استاذ التاريخ العقيد الركن حاج ادريس يؤكد ان الذي يملك التفوق الجوي في قتال الصحراء هو الذي يربح الحرب.

ورغم ان سلاح الهندسة قام باصلاح مدارج المطارات ليلة 5/6 حزيران الا ان عدد الطائرات التي سلمت من التدمير قليل جدا، وشاهدنا هذه الطائرات تقوم بمهمات جوية ولكن التفوق الجوي الاسرائيلي كان هو الارجح، في مساء يوم 8 /9 حزيران استلم الفوج امر بالحركة الى منطقة القاهرة، وفي صباح يوم 9 حزيران تم اركاب الفوج في عربات قطار وتحرك بحدود الساعة 830 كانت حركة القطار محفوفة بالمخاطر لأن القوة الجوية الاسرائيلية انهت مهمة تدمير القوة الجوية المصرية، وبدأت بضرب اهداف حيوية منها على سبيل المثال جسر الدفرسوار على قناة السويس في الاسماعيلية لشل خطوط المواصلات ومنع امداد القطعات شرق القناة بما تحتاج من مواد التموين وقطع طريق انسحاب القطعات الى غرب القناة.

تحرك القطار متجها نحو الشمال باتجاه مدينة الاسماعيلية ثم مدينة الزقازيق الواقعة شمال غرب الاسماعيلية، عند الوصول لمحطة القطار شاهدنا منظرا لن انساه طيلة حياتي يدل على حب الشعب المصري للجيش، حيث كان الالاف من طلاب الجامعة والمدارس الثانوية والمواطنين  يحملون الزهور بيد ورغيف العيش باليد الاخرى وحال توقف القطار تزاحموا على تقديم مايحملون الى الجنود من نوافذ العربات.

بعد توقف قصير واصل القطار السير باتجاه القاهرة حيث وصلها بعد الظهر واتجه نحو جنوب غرب القاهرة حيث محطة المرازيق التي لاتبعد عن القاهرة اكثر من 20 كيلومتراً، بعد الترجل من القطار بقى الفوج في المحطة بانتظار العجلات حتى غروب الشمس وبد أ الطيران الاسرائيلي يحلق في سماء القاهرة وقذائف المضادات الجوية تملأ سماء القاهرة، لم اشاهد مثل هذا المنظر الا خلال العدوان الثلاثيني على العراق سنة 1991، عندما كانت طائرات التحالف تقص اهداف حيوية في بغداد الحبيبة، وبعد الغروب مباشرة ألقى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كلمته على شاشات التلفزة ومحطات البث الاذاعي واعلن استقالته وتحمله المسؤولية عما حدث ولكن الشعب المصري رفض استقالة جمال عبد الناصر.

كان عدد نفوس القاهرة في ذلك الوقت 3 ملايين وخلال الدوام الرسمي يتنقل 2 مليون من الاطراف الى القاهرة، بعد ساعة من اذاعة الاستقالة خرج ملايين المصريين الى شوارع القاهرة بحيث لم يبق مجال للحركة راجلا بين شوارعها، شاهدنا ذلك من خلال البث المباشر للتلفزيون، وكان هذا الموقف العفوي اكبر استفتاء ليس في مصر بل في العالم على حب الشعب المصري للرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

بعد ان تم نقلنا بعجلات مدنية الى معسكر عرفنا اسمه لاحقا بمعسكر دهشور اوينا تلك الليلة منهوكي القوى وقلوبنا تقطر دماً لما حدث للجيش المصري في سيناء وفي صباح اليوم التالي ذهب امر الفوج لاستطلاع المكان الدفاعي المناط بالفوج.

بعد عودته أخبرنا بأن المدفعية الاسرائلية الثقيلة قصفت مكان الفوج في قاعدة فايد الجوية بشدة ليلة 9 /10 في المساء اعلنت الاذاعة الاسرائيلية نبأ قصف موقع كتيبة المشاة العراقية في فايد وتكبيدها خسائر جسيمة، وفعلا لولم يحرك الفوج صباح 9 حزيران لحلة كارثة بالفوج - من هذا الخبر استنتجنا ان الجواسيس منتشرين في عموم مدن القناة، بعد ذلك باشر الفوج بإعداد موضع دفاعي على طريق الاسماعيلية الصحراوي في منطقة قريبة من مطار القاهرة الدولي تحسبا لاحتمال استمرار زحف الجيش الاسرائيلي غرب القناة، الا ان هذا لم يحدث  لصدور قرار مجلس الامن الدولي بوقف اطلاق النار ليلة 10 /11 حزيران.

مكث الفوج فترة في معسكر دهشور لغرض التدريب وانتظار وصول عجلات الفوج من العراق عن طريق بيروت - الاسكندرية بواسطة السفن بعد وصول العجلات اصبحت لدى الفوج حرية حركة، ثم صدرت الاوامر بحركة الفوج الى خط المواجهة على قناة السويس في قاطع الاسماعيلية وتحديدا بحيرة التمساح ومنطقة قصر الملك فاروق، وحال الوصول تم توزيع الفوج حسب توجيهات قيادة فرقة المشاة الثانية المصرية فكان نصيب السرية الاولى قاطع حوض السفن وبناية هيئة قناة السويس وعلى يسارها السرية الثالثة، وبدأ الفوج باعداد المواضع الدفاعية وكان اغلب العمل يجري ليلا لأن المسافة بين المواضع الدفاعية بين الجيش الاسرائيلي والجيش المصري في اغلب الاماكن لاتزيد عن 200 متر الذي هو عرض قناة السويس.

في هذه المرحلة كان التفوق الاسرائيلي هو الراجح لأن الجيش المصري خسر جميع معداته خلال 5 ايام فقط ولكن المساعدات السوفيتية كانت سريعة وذات نوعية افضل خاصة الدفاعات الجوية والمدفعية الثقيلة - احدثت البحرية المصرية نقلة نوعية بتدميرها للبارجة الاسرائلية المسماة ايلات قبالة سواحل بور سعيد في البحر الابيض المتوسط واغراقها وعلى متنها اكثر من 50 ضابط بحري خلال خمسة دقائق حيث ساد الفرح وارتفعت معنويات القطعات ولكن ردت اسرائيل بقصف المنشآت النفطية في السويس، كان واجب فصيلي الدفاع عن بناية هيئة قناة السويس المؤلفة من 12 طابق وكان مرصد المدفعية المصرية يتواجد في الطابق ماقبل الاخير، حيث كنت اصعد اليهم لمشاهدة الدفاعات الاسرائيلية مستخدما السلالم لعدم وجود كهرباء حيث تم تدميرمحطات التحويل الكهربائي من الضغط الفائق الى الضغط العادي، وتم اخلاء جميع المدنيين من مدينة الاسماعيلية عدا متطوعي الهلال الاحمر المصري.

في احد الايام قام الفريق عبدالمنعم رياض رئيس اركان الجيش وبصحبته مجموعة من الخبراء الروس بزيارة تفقدية للمواضع الدفاعية، وطلب من امر سرية كتيبة مشاة مصرية تجميع السرية ولكن امر السرية لم يتمكن من تجمع السرية لاكثر من 20 دقيقة لأن التراخي كان ظاهر للعيان في قطعات الجيش المصري، انتبه الخبراء الى القطعات المجاورة وهي سرايا فوج الجيش العراقي فتقدموا باتجاهها فما كان من امر الفصيل الملازم عبد الرضا مانع الا ان قام بتجميع فصيله بكامل قيافة المعركة خلال اقل من خمس دقائق، الامر الذي أثار اعجاب الخبراء الروس ودهشوا من الفارق بالاستعداد والتحصينات بين الفوج العراقي والفوج المصري المجاور، حيث تقدموا اليه وصافحوه - احدهم ربت على كتفه وقال باللغة الروسية  (خرشو) معناها جيد وكررها عدة مرات.

وطلب الخبراء الروس من رئيس اركان الجيش المصري ان يكون استعداد ودفاعات الجيش المصري مثل فوج مشاة الجيش العراقي.

بعد اكثر من 6 اشهرعلى تواجد الفوج في خط الموجهة على قناة السويس وتحديدا في 6 كانون الثاني 1968 زار القاهرة قائد الفرقة الاولى اللواء الركن زكي حسين حلمي،قبل وصوله الى الاسماعيلية تم تهيئة قيافة المعركة له، وحال الوصول ارتدى القيافة وتفقد مواضع الفوج واصدر توجيهاته بصدد بعض النقاط التي شاهدها غير صحيحة، وبنفس الوقت تم نقل امر الفوج السابق وجيء بآمر فوج جديد وهو المقدم الركن محمد حسن شلاش حيث كان يشغل منصب معلم التعبية في الكلية العسكرية كما ان صنفه مشاة بينما امر الفوج السابق صنفه مدفعية، ومن خلال تجربتنا العملية فإن منصب امر فوج مشاة يجب ان يشغله ضابط من صنف المشاة لانه يعرف التفاصيل الدقيقة عن الصنف، وقام امر الفوج الجديد بزيارة قواطع السرايا في اوقات مختلفه نهارا وليلا وبدون اشعار السرايا مسبقا للتأكد من قيام الضباط بواجباتهم بشكل صحيح، وتأكد شخصيا بأن ضباط وجنود الفوج على مستوى عال من المسؤولية في تنفيد الواجبات المناطة بهم.

في احد خنادق النار على بحيرة التمساح في الاسماعيلية وتظهر احد السفن المحتجزة راسية خلف الصورة
ويظهرالفريق عبدالله المؤمن يرتدي النظارة وعلى يساره الملازم اول عبدالجليل وعلى يساره الملازم خالد جواد الشذر.

في مساء اليوم الثاني لعيد الاضحى المبارك اتصلت قيادة الفرقة الثانية التي يعمل الفوج بإمرتها تلفونيا بمقر الفوج وتم اخبار مساعد الفوج مايلي:

يجب حضور ضباط الفوج غدا صباحا الى مقر الفرقة لغرض لقاء وزير الدفاع الفريق اركان حرب محمد فوزي بمناسبة عيد الاضحى المبارك.

وفي صباح اليوم الثالث من ايام العيد المصادف 12/3/ 1968 بالساعة 900 صباحا ذهبنا الى المكان المحدد وتم استقبالنا بحرارة وجلسنا في المكان المخصص لنا في الصف الاول في مثابة الحضور حيث كان اكثر من 600 ضابط بينهم ضباط من وحدات الجيوش العربية – الجزائر- ليبيا – الكويت- السودان والاغلبية من الجيش المصري، وبعد تكامل الحضور اعتلى المنصة قائد الفرقة الثانية ورحب بالحضور، وقال بالامس اخبرناكم بلقاء السيد وزير الدفاع واليوم اخبركم بلقاء السيد الرئيس جمال عبد الناصر، وبعد لحظات اعتلى الرئيس الراحل المنصة ومعه اكثر من 10 جنرالات من جيش الاتحاد السوفيتي وصفق الجميع بحرارة، وبدأ الرئيس بتهنئة الحضور بمناسبة العيد، ثم بدأ بشرح الموقف السياسي قبل نشوب الحرب والموقف العسكري بتفاصيل دقيقة وشرح اسباب النكسة، حقيقة كنا على مدى 9 شهور نتمنى ان يشرح هذا الموقف عبد الناصر شخصيا، فالمعلومات التي قالها رحمه الله دخلت اسماعنا ورسخت في الدماغ ولايمكن ان تمسح من الذاكرة الا في حالة الموت، سأذكر مثالا منها لان الحديث استغرق اكثر من ساعتين – قال عندما كان يزورني قائد فرقة اسئلة عن استعدادات الفرقة من الناحية القتالية والادارية وتكامل الرجال فيأتي الجواب كلة تمام يافندم نحن على اتم الاستعداد للقتال، وبعد النكسة بدأت اتحقق من الاسباب فوجدت كلام القادة كله على الفاضي لأن الفرق لم تكن مهيأة للقتال لذلك كان اتخاذ قرارالحرب قرار خاطئ بسبب المعلومات الخاطئة التي قدمها قادة الفرق - اعتراف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بخطأ القرار الذي اتخذه شجاعة لايعترف بها كثير من القادة عند اتخاذهم قرارات سياسية خطيرة لدخول بلدانهم الحرب .

ولكي لا اغفل  ما ذكره عبد الناصر بدون تعقيب  تكرر هذا الموقف قبل احداث 2003 عندما كان الشهيد صدام حسين يلتقي بمجموعات من الضباط على شاشة التلفزيون يقولون حديث مغاير للحقيقة 180 درجة ومن خلال خبرتي الطويلة ساتحدث عن هذا الموضوع مستقبلا ان شاء الله .

من هذا الحديث وانا برتبة صغيرة قطعت عهد على نفسي ان لا اعطي معلومة عسكرية غير صحيحة للقيادات العليا مهما كلف الثمن، لذلك تعرضت مرتين لحكم الاعدام الميداني خلال قيادتي لتشكيل الايوبي خلال خمس سنوات ونصف في الحرب العراقية الايرانية ولكن الله مع الحق دائما وساذكر هذه الحوادث مستقبلا ان شاء الله.

الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يصافح الفريق عبدالله المؤمن ويظهر في الوسط قائد الفرقة الثانية المصرية التي كان الفوج يعمل بإمرتها
التقطت بتاريخ 12/3/1968.

وحين همَّ الرئيس عبدالناصر بالمغادرة طلبنا التقاط صورة تذكارية معه وللتاريخ لم اعرف سابقا مغزى ما اذكره الان، حيث تجمع ضباط الكتيبة الكويتية معنا، حينها قال عبدالناصر رحمه الله (لا لا) كررها مرتين العراقيين على حدة، والتقطنا معه صورة شخصية لكل ضابط وصورة جماعية لضباط الفوج، وبعد يومين ارسلت الينا الصور في ظروف لكافة ضباط الفوج.

الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الوسط الى يساره امر الفوج المقدم الركن محمد حسن شلاش ويظهرالفريق عبدالله المؤمن الأخير من يسار الصورة
التقطت بتاريخ 12/3/ 1968.

الدروس المتوخاة

1.الجيش العراقي كان سباقا للمشاركة في المعارك القومية .

2.جنود الجيش العراقي لايهابون الموت لان معدنهم اصيل ويأبى احدهم بعدم مشاركة اخوانه.

3.كانت وحدات الجيش العراقي على مستوى عالي من المسؤولية في تنفيذ المهمات المناطة بها .

4.كان منتسبو الفوج على مستوى عالي في الضبط العسكري خلال سنة لم تحدث اي حالة مخلة بالضبط العسكري.

5.كان الفوج محط اعجاب القيادة المصرية لمستواه العالي في التدريب والالتزام بتنفيذ الواجبات بدقة متناهية خلافا لوحدات الجيوش العربية الاخرى التي لم تكن بمستوى الفوج العراقي باعتراف القيادة المصرية.

6.كانت نكسة حزيران دافع للارتقاء بمستوى التدريب التعبوي لاحقا في الجيش العراقي .

7.خلال سنة كاملة لم يشكو اي من منتسبي الفوج او يتذمر وهو بعيد عن ارض الوطن وبعيد عن عائلته .

في نهاية شهر نيسان 1968 صدرت الاوامر باعادة الفوج الى العراق، واستغرقت عملية نقل الفوج على شكل وجبات اسبوعية، مايقارب الشهر، حيث كان التنقل الى بغداد ثم الى المعسكر الدائم في المسيب.