علي الكاش
(لتكن إنتفاضة الأنبار فوق أي إعتبار)
الحلقة الأولى، هنا...
العرض الثاني: نكبة الوثائق والكتب
سبق ان تحدثنا في الجزء الأول عن تعريف الوثائق وتصنيفها ودرجات الكتمان واهميتها قديما وحديثا، وذكرنا بأن الأمم تعمل جاهدة في الحفاظ على وثائقها القديمة والحديثة. فلا حضارة بلا وثائق بغض النظر عن كونها لوائح بردي او طين أو منحوتات صخرية أو ورقية ومعدنية أو التقنيات اللاحقة التي صاحبت التطورات العلمية. وذكرنا بان الدول المعادية تتربص ارشيف الدول التي تعاديها وتحاول الحصول إليه بشتى الطرق والوسائل.
من هذا المنطلق أولى النظام الوطني السابق أهمية كبيرة للوثائق القديمة والحديثة على حد سواء لذا صدر توجيه رئاسي الى جميع الوزارات والمؤسسات بنقل ارشيفها إلى مناطق آمنة خشية من إستهدافها خلال قصف المقرات والبنايات الحكومية. فعلا كانت نظرة موضوعية وخطوة إستباقية رغم إنها لم تكتمل. حيث تم نقل أرشيف معظم الوزارات الى اماكن اكثر أمنا، لكن بعض الوزارات والمؤسسات لم تتمكن من نقل أرشيفها كاملا، ليس تلكؤا وإنما بسبب تسارع الأحداث ومباغتة الأعداء بهجومهم الغاشم. لذلك تم الأخذ بمبدأ الأسبقية في اهمية نقل الوثائق.
كان حدس النظام الوطني السابق دقيقا للغاية فيما يتعلق بالأرشيف التأريخي للعراق، فقد توقع إستهدافه من قبل دول العدوان. تم نقل المخطوطات والوثائق التأريخية والأثار الى أماكن لا تخطر على بال أحد. ومن المؤسف جدا إن الزمن لم يجود بما فيه الكفاية لنقل جميع الآثار والوثائق والكتب سيما تلك التي كانت في المتحف الوطني وجهاز المخابرات ووزارة الخارجية وديوان الرئاسة ومكتبة الأقاف ودار الكتب والوثائق. كما إن المياه أيضا لم ترحم وثائقنا كإننا شهدنا الغزو المغولي من جديد عندما إختلط نهر دجلة بدماء العراقيين وأحبار كتب وعلوم الأولين. الغزو واحد مهما تقادم الزمن، والحقد واحد مهما تعددت الجنسيات وإختلفت المسميات. والعدوان واحد مهما كان تحضر دولة العدوان.
خلال الحرب الاهلية في لبنان هبطت طائرات إسرائيلية على مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت وحملت كل ما فيه من كتب ووثائق وحتى قصاصات الورق المرماة في سلة المهملات لم تهملها. لم تهبط على الطائرات على مركز رئاسي أو عسكري أو صناعي بل على مركز ثقافي لأنها تدرك جيدا بأن هذا المركز المهم بما يتضمنه من أرشيف هو أشد خطرا عليها من أي سلاح آخر. ونستذكر كذلك مخطوطات البحر الأسود حيث إعتمد الكيان الصهيوني على مختلف الطرق للحصول عليها وهي أقدم مخطوطات في العالم تكشف الحقائق عن حياة السيد المسيح (ع) وتخالف الإنجيل المتداول في الكثير من الأحداث. خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 حين سقطت الضفة الغربية بيد الصهاينة هرعوا إلى متحف القدس الذي يضم تلك المخطوطات فإستحوذوا عليها بالكامل، ولم تفلت سوى مخطوطة واحدة كانت في عمان حينذاك.
نفس العملية جرت مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 حين مهدت إدارة الغزو دخول خبراء واساتذة صهاينة (معهما لقيطان عربي وعراقي هما إسماعيل حجر وكنعان مكية) في الدراسات القديمة والآثار الى ملجأ تحت جهاز المخابرات الذي يحتوي على الأرشيف اليهودي، وفيه أقدم توراة في العالم مكتوبة على قصب البردي، علاوة على آلاف المخطوطات والوثائق اليهودية باللغتين العبرية والعربية حيث تم نقلها بمساعدة الخونة أحمد الجلبي وكنعان مكية الى الولايات المتحدة بحجة معالجتها من بعض التلف. وحطت أخيرا في الكيان الصهيوني حيث تم تهيئة مركز خاص بها على شكل متحف.
لذا نسمع حاليا بما يدور في الكواليس حول مطالبة بعض اليهود بتعويضات عن ممتلكاتهم التي تركوها في العراق خلال ما يسمى بفترة (الفرهود) مستندين في دعاويهم تلك على الوثائق التأريخية التي إستحوذوا عليها خلال العدوان. وقد علق الخبير الصهيوني في الآثار( موردخاي بن بورات) لصحيفة هارتس الإسرائيلية" لقد تمكنا من الحصول على تعليق نادر لسفر أيوب نشر سنة 1487 وقسم من كتب الأنبياء المنشورة في البندقية سنة 1617من مخازن حصينة لأجهزة الأمن العراقية في عهد صدام حسين" مضيفا بإنه "ليس من الصعب الحصول على أي شيء من اللصوص الذين ظهروا في أعقاب احتلال العراق. وإننا بصدد ملاحقة بعض النفائس اليهودية التي هربت من العراق إلى دول الخليج".
فعلا تم تجنيد العديد من العرب بأغطية مختلفة لجمع المخطوطات والوثائق المتسربة. كان تسرب تلك الوثائق قد لقي رواجا من قبل بعض المواطنين العرب الذين قدموا مع الاحتلال ومنهم الأطباء والمترجمين. فالكتب والوثائق المتخصصة بالعائلة المالكة في العراق كانت تهرب إلى الأردن. وما يتعلق بالخليج العربي يهرب إلى الكويت أو السعودية عبر أطباء ومستخدمين يعملون في مستشفى الشيخ زايد التي فتحت بعد الغزو في بغداد. والكتب المتعلقة بالحدود الشرقية وإمارة المحمرة وعربستان تهرب إلى إيران.
ذكر موردخاي بأن "فريقا متخصصا من الموساد بعد أيام من سقوط النظام العراقي السابق، وبالتعاون مع ضباط من وكالة الاستخبارات الأمريكية سيطر على المكتبة اليهودية القديمة في المخابرات العراقية. من بينها مخطوطات خطت على لفائف البردي كالتوراة والقبالة و الزوهار ويعود تأريخها إلى(2500) سنة حفظت في العراق منذ السبي البابلي". واشار السيد أسامة النقشبندي مدير عام المخطوطات العراقية بأن" الدكتور إسماعيل حجارة قد أرسل من الولايات المتحدة للأشراف على هيئة الآثار والتراث وكان وراء نقل هذه الأسفار النفيسة". ألا يستحق هذا العميل المسخ إسماعيل حجارة والعراقي السافل مكية بأن يرجما بالحجارة؟
أما الوثائق المتعلقة بأرشيف المخابرات نفسها، فقد توزعت بين عدة جهات فقد إستحوذ كنعان مكية صاحب بقالة (الذاكرة العراقية)على البعض منها. وكانت الحصة الأكبر لأحمد الجلبي واقل منها للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي إنصب إهتمامه على نقل الأرشيف الإيراني في الجهاز إلى النظام الإيراني من منطلق ردٌ الجميل. وإحتفظ على عدد من الوثائق والاشرطة المسجلة والاقراص الليزرية. وقد إستمعنا بواسطة صديق إلى بعض منها واثارت فينا الدهشة لأنها تتعلق بمسؤولين كبار في الدولة محفوظة لدى جهاز المخابرات.
ولنتحدث الآن عن داخل دار الكتب والوثائق بعد أن تجاوزنا عتبتها، بعد أن نهبت بفترة قليلة تعرضت إلى عملية إحراق مقصودة وبفعل تدميري منظم ومبرمج له، وبحقد تأريخي لا مثيل له حتى في عصر المغول. حيث دخل المجرمون العرب المكتبة تحت مرأى الأمريكان المرابطين في وزارة الدفاع دون أن يكترثوا! لربما الأمر مرتب كما سيتبين فيما بعد. كانت دبابتان أمريكيتان بالقرب من ساحة الميدان، ومثلهما قرب جسر باب المعظم بما يعني أن الشارع الرئيسي مغلق من منطقة الميدان ولغاية باب المعظم حيث تقع المكتبة الوطنية في منتصف هذا الشارع. وتمت عملية الحرق بهدوء بلا عجلة بدءا بالوثائق الأكثر أهمية (كانت في الطابق الأعلى) نزولا إلى الطابق الأرضي باستخدام الوقود. وبعد أن تصاعدت أدخنة النيران هبٌ العديد من العراقيين إلى تنبيه القوات الأمريكية إلى الحريق ولكنهم رفضوا التدخل وإطفائه!
نشرت صحيفة الاندبندنت في عددها الصادر في منتصف نيسان عام 2004 نقلا عن الكاتب البريطاني المعروف روبرت فيسك بأنه ذهب إلى القوات الأمريكية بنفسه وأخبرهم عن أعمدة الدخان المتصاعدة من المكتبة الوطنية ومكتبة الأوقاف ولكنهم لم يحركوا ساكنا؟ ولماذا يحركون ساكنا؟ أليس مرادهم هو تدمير حضارة العراق ومحق هويته الثقافية وسلب ذاكرته الوطنية. من المثير للسخرية أن تنشر الحكومة الأحتلالية هذا الخبر الاستفزازي تحت عنوان "مكتبة الكونغرس- مهمة وزارة الخارجية الامريكية في بغداد (15 كانون الثاني 2003 ) جاء فيه:-
"قام فريق من الخبراء من مكتبة الكونغرس مؤخراً بزيارة لبغداد للمساهمة بمشروع إعادة أعمار المكتبة الوطنية والأرشيف العراقي تحت إشراف وزارة الخارجية الأمريكية. و قد ترأس المهمة المختصة بشؤون العالم العربي (ماري جين ديب) و(مايكل انجلو) المدير السابق لفرع المكتبة في القاهرة و (ألن هال) أخصائي الصيانة من مكتب المحافظة و الصيانة".
هكذا أسدل الستار على أكبر جريمة ارتكبت بحق العراق وطنا وشعبا وحضارة، تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى قوات الاحتلال التي تمركزت في وزارة النفط، وتركت متاحف العراق ومؤسساتها الثقافية عرضة للنهب والحرق والتخريب. ولو وضعت إدارة الشر جنديا واحدا لحراستها لما حصل ما قد حصل. وتتحمل المسئولية الثانية بعض دول الجوار التي مازالت تعميها لغة الانتقام ولم يطفأ شبقها الانتقامي احتلال البلد وتدميره. كما تتحملها حكومة الاحتلال المتمثلة آنذاك بمجلس الحكم الذي انشغل بالكراسي متجاهلا تأريخ الأمة وهويتها الحضارية. وسبق لنا أن أوصلنا رسالة عبر أشخاص مقربين إلى بعض أعضاء مجلس الحكم لتدارك إحراق وإغراق الكتب والوثائق لكن النتيجة كانت" لقد أسمعت لو ناديت حيا". كما يتحمل المسئولية نفر من العراقيين الضالين من موظفي المكتبة الوطنية وبعض المجرمين وضعاف النفوس التي سولت لهم نفوسهم المريضة سرقة تأريخ أمتهم وحضارتهم ومجدهم وبيعه إلى من لا تأريخ له.
في سراديب هيئة السياحة تم نقل الآلاف من الكتب والوثائق العائدة إلى دار الكتب والوثائق، وكان موظفون ربما اثنان أو اكثر ممن يعرف بمكان وأهمية الكتب والوثائق قد قاموا بتسريبها وبيعها إلى باعة الكتب ممن يبسطون كتبهم على الأرض. بذلك فقدت المكتبة أكثر من 25% من الكتب أي حوالي(250) ألف كتاب علاوة على ملايين الوثائق. ومما تجدر الإشارة إليه إن أصحاب المكتبات الكبيرة في شارع الكتب(المتنبي) كان لهم موقف وطني رائع ومشهود. فقد إمتنعوا عن شراء أي كتاب مختوم رغم تفنن بعض اللصوص بإخفاء الاختام بعدة طرق او خلع ورقة الختم من الكتاب. بل كما شهدنا إنهم كانوا ينصحون من يأتي بها أن يعيدها إلى المكتبة الوطنية أو الأوقاف فهي ثروة العراق ولا يجوز سرقتها لأن هذا الفعل يتنافى مع الدين والمواطنة. ومن هؤلاء الميامين أصحاب مكتبة النهضة والزوراء وعدنان والقانونية والليث والرباط والبيان والمثنى والعصرية والقيروان والحيدري والشطري وغيرهم.
لقد جسدوا هؤلاء الرجال الاخلاق العربية الأصيلة، وتحلوا بالوطنية الصميمية فلم تغريهم الملايين التي يمكنهم جنيها من بيع تلك الكتب والوثائق النادرة. وفيما استذكره بهذا الصدد كان أحد باعة البسطيات يبيع عددا من كتب المكتبة الوطنية النادرة وكان من جملة الكتب كتاب القانون في الطب للحسين بن عبد الله(إبن سينا) طبعة روما عام 1593 وبهامشه كتاب النجاة مختصر الشفاء لنفس المؤلف وهو من أندر الكتب قاطبة. وكان المشتري من أصحاب المكتبات وصاحب شهادة عليا، أخذ يساوم البائع على السعر فإنتظرنا عسى أن تفشل المساومة ونشتريه بدورنا لإعادته إلى المكتبة الوطنية. لكن المساومة نجحت وإشترى صاحب المكتبة كتاب القانون حسبما اذكر بـ(30000) دينار عراقي. فقلنا له وهو من أصدقائنا بأن الكتاب من التحف وهو يعود إلى المكتبة الوطنية حيث كان الختم مثبتا على الكتاب! فقال أعرف إن قيمته تساوي آلاف الدولارات لكني سأعيده إلى المكتبة الوطنية حالما تفتتح. فحمدنا الله على ذلك الموقف وكان عهدنا كبيرا بصاحب المكتبة الذي نتحفظ على إسمه حاليا لعدم معرفتنا بوجود نسخة أو أكثر من الكتاب نفسه. حيث أدلى السيد سعد إسكندر أمين عام المكتبة بحديث إعلامي أشار فيه إلى إن الكتاب نفسه أو ربما نسخة ثانية منه(الله أعلم) قد تم تهريبه إلى دولة خليجية مجاورة! لم يسمها إسكندر ولا نعرف السبب في ذلك! وهل هي نفس النسخة التي تحدثنا عنها؟ وهل تمت إستعادة الكتاب من الدولة الشقيقة المجاورة أم لا؟
في موقف لاحق رأينا احد الوجوه المعروفة والقديمة من هواة الكتب وهو يساوم بائع آخر على شراء اضابير ملكية حوالي(30) إضبارة معظمها تعود الى العهد الملكي، وتمكن من شرائها بحوالي (750) ألف دينار عراقي بوجودنا. وبعد مدة من الزمن إلتقيته في مكتبة الشهيد عدنان وكان ينتظر عجلة تعود إلى المكتبة الوطنية. حيث تبين إنه إستودع الشهيد عدنان الوثائق التي إشتراها وعندما علم بإفتتاح المكتبة الوطنية إلتقى كما أخبرنا بالدكتور سعد إسكندر واخبره عن موضوع الوثائق وإتفقوا على إرسال سيارة إلى مكتبة الشهيد عدنان لتسلمها. وتم التسليم والتسلم أحد أيام الجمع بوجودنا ووجود المرحوم عدنان وموظف من المكتبة. كان موقفا وطنيا منه. وقد علمنا بأنه إشترى العديد من الكتب والاضابير أضافها الى ما سبق ذكره واودعها المكتبة الوطنية. علاوة على ذلك كان هناك موقف رائع للسيد حسين الوهب الذي بدوره إشترى مجموعة نادرة من كتب المكتبة الوطنية المسروقة بمبلغ(400) ألف دينار وكان من جملتها دورة كاملة وفريدة من كتاب(البحر الرائق) وإستودعها أيضا مكتبة الشهيد عدنان وأعادها للمكتبة بعد إفتتاحها. وبدلا من توجيه الشكر له على موقفه الوطني الرائع إدعى السيد سعد إسكندر بأنه عوضه بالمال وكان ذلك محض إفتراء. مما إضطر السيد الوهب للقاء السيد سعد إسكندر أمين المكتبة ثانية ليعاتبه على إدعائه بالتعويض.
كانت الوثائق تباع على شكل ملفات بقيمة بقيمة 25 إلى 100 دولار للملف الواحد حسب أهميته وعدد الوثائق التي يحتويه، فبعض الملفات تضم وثائق بعدد أصابع اليد وأخرى ما بين 100 إلى 200 وثيقة مرقمة بخط اليد أو بمربع صغير في أعلى الورقة من قبل دار الكتب والوثائق. أكثر الملفات التي عرضت في سوق الكتب كانت تتعلق بالحقبة العثمانية والملكية وأقل منها بالنظام الجمهوري لغاية حكم الرئيس عبد الرحمن محمد عارف. أما المتعلقة بحكم حزب البعث فقد بقيت في المكتبة حيث تعرضت للسرقة أو الحرق. في حين نقل أرشيف القيادتين القومية والقطرية إلى الولايات المتحدة.
لنا بعون الله لقاء آخر حول موضوع نكبة الكتب والوثائق. ففي جعبتنا الكثير من الحوادث التي جرت أمامنا. وسنتحدث في المقال القادم عن الموقف العام للعراقيين من كتبهم ووثائقهم وهو موقف مؤسف للغاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق