عبد الكاظم العبودي *
تؤكد الاحداث ، وما يصل من أخبار ان الانتفاضة العراقية القائمة ليست مرتبطة بأيام الحشود الكبرى التي نراها كل يوم جمعة فقط. وهي وكما تؤكد كثير من الوقائع والمؤشرات باتت عملا تعبويا وثوريا يوميا ومنظما ومستمرا، تسهر عليه هيئات ولجان مختلفة التخصصات والمهام تمارس نشاطاتها في الساحات المناط بها في التعبئة والتحشيد وتطوير شتى الفعاليات، وتكون ذروة ايامها كل يوم جمعة؛ لما في هذا اليوم من دلالات الايمان والالتزام بالشعائر الدينية وفرصة الاستماع الى خطب منابر الجمعة وتوجيهات نشطاء الانتفاضة في كل مرحلة من المراحل.
وعندما تقررت تسمية أيام الجمع بمسميات تعبوية معينة اقترنت برفع الشعارات السياسية، ذلك لا يعنى ان بقية الايام كانت خالية من انشطة أخرى، وهي كثيرة جدا تتجلى في البقاء في ساحات الاعتصام وحراستها واستقبال ضيوفها والمناوبة في تنفيذ الكثير منها الانشطة الثقافية والسياسية والمحاضرات والمعارض وسماع الاناشيد والأغاني الثورية... الخ. ؛ وهذه الفعاليات الهامة غاب عنها بعض من الاعلام التلفزي الحاضر في الساحات، وكثيرا ما غيبها عن رؤية المشاهدين ومتابعتهم.
وهنا تكمن الخطورة في انتقائية النقل التلفزي الذي يصل لمشاهدي التلفزيون داخل العراق وخارجه. واذا كانت حكومة المالكي قد منعت العديد من القنوات الفضائية وأبعدتها عن تغطية أنشطة ساحات الإعتصام، ظنا منها انها سوف تكتم أنفاس صوت الانتفاضة، لكي تتفرغ قوات القمع الحكومي ومليشياتها لمهامها القذرة في تنفيذ مجازرها ومضايقاتها لجمهور الساحات، فان بقية القنوات لازالت في انتقائيتها عاجزة عن ترجمة طموحات صوت الانتفاضة في الوصول الى كل بيوت العراقيين والخارج.
الواقع الاعلامي لحالة الانتفاضة يعكس للجميع ، بما فيها السلطة القمعية، ان ثمة وسائل عديدة تتبناها لجان الاعلام في الساحات بجهدها الخاص، رغم شحة الامكانيات لديها، لايصال صوتها الى الداخل والخارج، بينما يعتمد الجهد التعبوي الاعلامي الاساسي كثيرا على الاعلام الثقيل، اي حضور كامرات البث التلفزي المباشر في أيام الحشود الاسبوعية الكبرى، لما لهذا الجانب من تأثيرات نفسية واجتماعية وظرفية هامة.
وعندما تتوزع مشاهدات الجمهور خارج ساحات الانتفاضة على عدد من الفضائيات لحظة النقل المباشر فان ثمة خطورة تكمن في ممارسات بعض الفضائيات التي تعود ملكياتها واداراتها الى هذا الطرف او ذاك من خلال انتقائية البث المباشر وتشتيت انتباه المشاهدين، من خلال التركيز على خطاب معين؛ سواء منه الديني أو السياسي، وهذه الانتقائية باتت تفعل آثارها السلبية في تشويش الرأي العام الداخلي والخارجي ، لكونها تبدو للبعض وكأن هناك ثمة صراعات داخل معسكر الانتفاضة، يتجلى في أسلوب الخطاب الديني او الفئوي او الحزبي وحتى الطائفي الغالب من خلال التغطيات الاعلامية الخاصة، والتركيز على ذلك وكأنه حالة قائمة، تتعارض في كثير من الاحيان مع مسار تصاعد شعارات ساحات الاعتصام الوطنية التي تبلورت من مرحلة رفع المطالب حول الحقوق ورفض مظالم القمع الوحشي واطلاق سراح الابرياء من السجناء الى مواجهة تحدي سلطة المالكي برفضها، خاصة بعد ان تجاهلت الحوار مع ساحات الانتفاضة، وناورت بشتى الاساليب القذرة لإجهاضها، بالمقابل تبنت قوى الانتفاضة في ساحات الانتفاض والاعتصامات والتظاهرات بالتركيز على وطنية الانتفاضة وشمولية المطالب لكل ابناء العراق.
وهكذا ارتفع الحس الثوري في خطاب ساحات الانتفاضة مع استمرار حالة المنازلة مع السلطة، وتجلى برفع سقف المطالب الى الذروة في المطالبة باسقاط حكومة المالكي في المرحلة الاخيرة وفي الجمعة السابقة وخصوصا بعد مجزرتي العامرية والحويجة، حيث اعلنت الساحات مجتمعة شعار حرق المطالب وتجاوزت لوائحها التفصيلية على الورق، تعبيرا رمزيا واضحا منها عن الاعلان بالثورة وتجاوز وجود حكومة وسلطة لا قرار لديها في معالجة الازمة الا بمزيد من القمع وتنظيم المجازر من جهة، وقطع الطريق على محاولات الاحتواء لبعض الساحات عبر وسطاء مشبوهين سوقوا الى امكانية الحل من خلال الحوار والتفاهم مع حكومة المالكي دون العمل على اسقاطه، وفي ذات الوقت يتم الدفع باطراف من المنتفضين نحو تبني القبول بطرح الحل والخلاص من خلال تبني الدعوة الى الفيدرالية.
وهنا يكمن القتل المبرمج للانتفاضة من جهة، وتتجلى سياسات الانقضاض على العراق شعبا وترابا لإنقاذ حكومة وسلطة المالكي العميلة وابقائها؛ وكأنها باتت المخلص التاريخي لشيعة وعرب العراق وبات تصوير استحالة ازالتها من خلال التظاهرات والاعتصامات الشعبية وجرى التيئيس من كل ذلك بحجة تأخر تنفيذ شعار : الى بغداد قادمون" ؛ وهو بالذات ما عملت عليه ايران ووكلائها في التحالف الشيعي في جنوب العراق، ويدعمه بشكل جلي موقف التحالف الكردستاني في شمال العراق بمناورات سياسية مكشوفة وتكتيكات عندما لم تقطع الصلة مع حكومة المالكي حكوميا وسياسيا واهتم الطرف الكردي بمطالباته القومية الكردية الخاصة وما تريده ادارة البرزاني وحكومة الاقليم الكردي من امتيازات لها.
ركز النقل التلفزي المحسوب على معسكر الاعلام المتعاطف مع التظاهرات والساحات وبطرق انتقائية، ومنها خبيثة في الاسبوع الاخير على قضية رفع صوت الخطاب الداعي للفيدرالية؛ بطريقة وكأن الانتفاضة تعيش يأسا قاتلا أو انها تبدو، كما لو أنها تعبت من مطاولتها التاريخية في مقارعة حكم المالكي وعمليته السياسية التي لم تنكر على معارضيها حق تشكيل الاقاليم وفدرلة العراق، ظنا منها ان مناطق نفوذها الغنية بحقول البترول، وتحكمها بجنوب العراق والبصرة والموانئ للتصدير سيعطيها مستقبلا امكانية التحكم بالآخرين وإخضاعهم لبيت الطاعة في سلطة المنطقة الخضراء من خلال التلويح بميزانيات التسيير المالية الضخمة التي ستكون تحت سلطتها وبيدها ، ومن خلال التسلط على نفط الجنوب، ومن خلال ذلك ستجعل بقية اقاليم العراق رهائن بيد من يحكم بغداد بواجهة ديمقراطية مزيفة تبنت ما يسمى بحق الاغلبية البرلمانية في الحكم ومن تبني مشاريع المحاصصة الطائفية وتحديدا حصر السلطة بيد التحالف الشيعي.
هذه الجمعة مارس الاعلام الانتقائي، ومن خلف واجهة التعاطف اللفظي والشكلي مع الانتفاضة، هجمة شرسة وخبيثة باظهار قوى الانتفاضة منقسمين في الخطاب والساحات ، وحتى جرى التركيز بشكل مدروس على تباين الانقسام في المطالب المرفوعة، وارتفع عبر الاعلام التلفزي المقصود من جديد الصوت الداعي الى الفيدرالية كحل؛ بل نقلت فضائيات معينة بعضا من اصوات خطباء الجمعة والشيوخ، وهي تحمل لهجة جديدة من نبرة الخطاب، تشكل تراجعا فاضحا عن خطاب الانتفاضة الثوري، في صيغة التوسل بالمالكي ومناشدته وتسميته بـ "ابي اسراء" وحتى مخاطبته لكي يكون قائدا وطنيا يضع في حسبانه قيادة العراق والعراقيين عربا وسنة ... الخ.
وبسرعة لمح مثل هؤلاء الخطباء، وبتركيز اعلامي عليهم في ذروة نقل خطب صلوات الجمعة الى ان الحل والخلاص سيكون في الفيدرالية دون غيره، وبهذه النهاية المأساوية لخطاب ديني تصعيدي رأيناه وشاهدناه في الاسبوع الماضي وهو يحرق لوائح المطالب من خلال نفس الشاشات لينتهي ذلك الخطاب الى مشاهد واصوات تدعو الى المناشدة والتوسل للقاتل الهالكي والدعوة الى امكانية قبول التعايش معه ومع حكمه من خلال الفيدرالية.
وما عدا مشهد النقل التلفزي من ساحة العز والكرامة في الفلوجة الذي لم نراه للأسف لحجبه عنا بشكل مقصود، حيث أجبرت الجماهير الغاضبة خطيب الجمعة وأنزلته من المنصة ومنبر الجمعة وقاطعت خطبته لأنه تجرأ على طرح مشروع الفيدرالية، جسا منه للنبض الجماهيري، فكان الجواب من الجماهير الواعية بطرده وإسكاته وهي بمثابة حالة استفتاء شعبي وطني عراقي عارم للمخطط الجديد عبرت عنه ساحة الانتفاضة في الفلوجة وتجاوبت معها بقية الساحات بعد شيوع الخبر.
المطلوب من قادة ساحات الاعتصام ولجان الاعلام فيها الحذر والحزم إزاء تمرير مثل هذا الخطاب التخاذلي المكرس لاشاعة أجواء الخوف والتراجع والقبول بما هو اخطر من قبول بقاء سلطة المالكي؛ الا وهو خيار تبني الفيدرالية الذي طرحه المالكي منذ اول ايام التظاهرات، كحل للخلاص من ورطة رفض دكتاتوريته وحكمه وفشل العملية السياسية التي تركها الغزو والاحتلال.
ومن هنا لا بد من محاسبة ومتابعة الفضائيات التي لازالت تصل بكامراتها الى الساحات ولم يطالها الابعاد والزامها بعدم البث الانتقائي والعبث بمصير الانتفاضة من خلال تلك الانتقائية والبرامج المكرسة للاحباط لا بمصير الانتفاضة فقط؛ بل والثورة في عموم العراق.
ان تلك الفضائيات تحاول تقسيم المقسم والمجزئ اصلا وتعمل على تفتيت جهد الانتفاضة التعبوي بزرع روح اليأس والإحباط والانقسام بين توجهات وأوساط جماهيرها داخل الوطن وخارجه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق