وجهات نظر
نزار السامرائي
ماذا يحصل لو أن روسيا خسرت نفوذها في أوكرانيا، التي كانت يوماً جزءاً
مهماً من الاتحاد السوفيتي نفسه، ثم جاء إلى الحكم في كييف نظام موالٍ للغرب وتمدد
حلف شمالي الأطلسي داخل حدود دول حلف وارشو السابق، بل ربما اجتاز هذا الحلف وارشو
عاصمة بولندا فأصبحت تلك المدينة نفسها على الغرب منه وأقيمت هناك قواعد سياسية
وعسكرية للناتو الذي أصبح على الحدود الجنوبية الغربية
لروسيا نفسها؟
وما هي قيمة شرق المتوسط لروسيا وأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية
إذا خسرت أوكرانيا وخسرت معها حالة الاستقرار النفسي والسياسي والأمني على حدودها
مع أوكرانيا؟ ثم باشر حلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوربي بطرق مداخلها بقبضات
قوية ليعبثا بأمنها الداخلي باسم حقوق الإنسان وبناء ديمقراطية حقيقية في روسيا
تضع حدا للتناوب الحاصل بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف
في المناصب في لعبة بائسة باسم الديمقراطية، وتصر على التداول المفتوح للسلطة من
دون تلاعب بالشكليات التي تمارسها موسكو، وماذا لو أصر الغرب على الدعوة تطبيق
مبادئ حقوق الإنسان وتوسيع نطاق الحريات العامة بما فيها حرية التعبير وحرية
الصحافة في روسيا ورفع قبضة الحكومة الروسية عن الملفات التي يسعى الغرب لمحاربتها
فيها حتى لو لم يكن صادقا في تطبيقها في كثير من مناطق العالم؟
لقد تفجرت الأزمة السياسية في أوكرانيا على نحو فوّت على موسكو
استخدام ملف الغاز للضغط على المعارضة لثنيها عن مساعيها لإسقاط الرئيس ياكوفيتش
مقابل إغراء الانضمام للاتحاد الأوربي مع كل ما يحمله ذلك من آمال للبلاد برفاهية
اقتصادية وآمال بالديمقراطية وحلم بالتخلص من إرث عتيق من التخلف والاستبداد،
فاختارت المضي في مواجهة الرئيس ياكوفيتش حتى النهاية وقدمت من أجل ذلك تضحيات
كبيرة ولافتة.
لا يمكن أن نفترض أن الشعب الأوكراني كان يتحرك بآلية عمياء وراء ما
يطرحه الإعلام الغربي وكأنه قطيع يتحرك من دون إرادة أو وعي، بل أثبت أنه شعب لديه
قضية لا ترتبط بنوايا القوى الدولية الكبرى، حتى إذا أقام الاتحاد الأوربي قواعد سياسية
على مقربة من قواعد الصواريخ الأمريكية المضادة للصواريخ والتي تطوق روسيا من أكثر
من جهة.
روسيا من جانبها قاتلت حتى النهاية من أجل الاحتفاظ بحليفها الرئيس الأوكراني
ياكوفيتش، من أجل عدم السماح لبؤرة التوتر أن تنتقل إلى داخل أراضيها، ومواصلة
مناكفة الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا إلى ما لا نهاية في مناطق أخرى في
العالم وخاصة في الدعم المفتوح والذي فاق كل التصورات لنظام الرئيس السوري بشار
الأسد في حرب الإبادة التي يشنها بلا هوادة على الشعب السوري من ثلاث سنين.
لا بد أن نسأل أنفسنا هل أن التحالف الغربي حريص حقا على دماء
السوريين ووحدة بلادهم؟ أم أن الغرب الذي كان يستطيع منذ الأيام الأولى لاندلاع
الانتفاضة السورية منع تدفق السلاح الروسي والإيراني إلى الحكومة السورية وهو ما
مكّن النظام من العيش حتى الآن، لكنه لم يفعل لأنه توصل إلى استنتاج بإن إبقاء
حالة الاشتباك مستمرة في سوريا سيستدرج حزب الله وإيران والمليشيا الطائفية من
العراق لتتقاتل مع قوى هي الأخرى لا تلتقي مع المصالح الغربية، وبالنتيجة يتحقق
أمن إسرائيلي تلقائي من خلال إخراج سوريا من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي ومن
منظومة الأمن القومي العربي كما تم إخراج العراق من قبل.
مهما كانت أهمية المياه الدافئة بالنسبة لروسيا ومهما بلغت قوة الدفع
التي يحملها حلم إمبراطورة روسيا كاترينا بالوصول إلى تلك المياه، ومهما كان
الوجود الروسي في شرقي المتوسط وفي الخليج العربي مهما، فإن خسارة الحلفاء الأقربين
على الحدود لا يمكن أن تعوضه أية جائزة بعيدة، ربما يمكن الافتراض أن الاستراتيجية
الروسية الجديدة تتجه نحو الجنوب، حيث يتواجد آخر رصيف على شواطئ المتوسط على
استعداد لاستقبال السفن الحربية الروسية وتقديم خدمات الصيانة والتجهيز لها، أو في
الخليج العربي حيث يتواجد خزان النفط الأكبر في العالم، وحيث تحتفظ موسكو بعلاقات
قديمة مع إيران رسم معالمها التواطؤ الروسي مع طموحات إيران النووية ذات الأهداف
العدوانية في المنطقة، ويبدو أن روسيا تريد أن تصبح شريكا في الثروة البترولية (من
نفط وغاز) إنتاجا وتسعيرا وتسويقا، هذا كله يمكن الحصول عليه عبر مواثيق الصداقة
وليس بالتشجيع على القتل الأعمى الذي تمارسه حكومات محسوبة على الحلف مع روسيا.
روسيا اعتمدت على آليات سوفيتية في خوض حرب باردة مستلة من أدراج الـ KGB واعتمدت أيضا على عقليات لا تستطيع الخروج عن
قوالب جامدة في إدارة الأزمات والصراعات مع الغرب الذي يتفوق على روسيا اقتصاديا
وتكنولوجيا، وبالتالي عندما تمسكت روسيا بمواقف داعمة للحكومة السورية حتى في ملف
المعونات الإنسانية، فإنها كانت تسجل على نفسها خسائر على مستوى المتضررين من هذه
السياسة الحمقاء، ففي سوريا لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ولن تستطيع سوريا أن
تحصل على موقع مماثل لما كانت تحتله في الماضي على شواطئ المتوسط، وإذا كانت روسيا
تبحث عن أصدقاء فإن عليها ألا تكرر في العراق أخطاءها المميتة التي ارتكبتها في
سوريا.
ولكن بطء الدب الروسي في تقويم أخطائه سوف لن يسمح لموسكو لتلافي الوقوع
بالخطأ قبل فوات الأوان، على هذا نستطيع أن نفترض أن زيارة وزير الخارجية الروسي
لافروف إلى بغداد تقع في نطاق استمرار حالة العمى الروسي عن معرفة مصالحها هي
بالذات لأنها تدعم حكومة مستبدة هي حكومة المالكي، حتى بات المراقب يسأل بإلحاح
لماذا اختارت موسكو كلا من طهران ودمشق وبغداد كساحات استعراض لعلاقاتها مع دول
العالم؟ إلا يدل ذلك على التقاء قوى الشر الجديد في حلف الأغبياء الذي لن يعمر
طويلا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق