وجهات
نظر
مصطفى
يوسف اللداوي
ربما لا يعرف الكثيرون من هي ماريا ميلر، إنها وزيرة الثقافة والرياضة البريطانية
السابقة عن حزب المحافظين الحاكم، التي قدمت استقالتها من منصبها في الحكومة
البريطانية قبل أسبوع، بعد أن أثيرت شبهاتٌ حول ذمتها المالية، ما دفعها إلى
التعجيل بتقديم استقالتها إلى رئيس الحكومة البريطانية دافيد كاميرون، الذي قبلها
وكلف بريطانياً مسلماً لأول مرةٍ في تاريخ انجلترا بالحلول مكانها في الوزارة.
ربما من المفيد أن نتوقف عند السبب المباشر الذي دفع السيدة ميلر لتقديم
استقالتها، إذ فيه عبرة لكلِ مسؤولٍ، ودرسٌ لكل صاحب منصبٍ، علَّ المواطن العربي
يقف عند الشفافية الغربية المميزة، والحساسية الأوروبية المرهفة، تجاه كل ما يمس السمعة
والأداء، وما يتعلق بالنزاهة والأمانة، وكل ما له علاقة بالشأن العام، ومصالح
المواطنين وشؤون الوطن.
أتهمت السيدة ماريا ميلر بأنها مسرفة ومبذرة، وأنها تهدر المال العام، ولا
تراعي في الإنفاق، ولا تتوخى الدقة في الصرف، وأنها لا تحرص على الشفافية فيما
يتعلق بمصروفاتها، وبعبارةٍ أخرى فقد أتهمت بخيانة الأمانة، والإهمال في أدائها
الوظيفي، وأنها تسببت في إلحاق أضرارٍ بحقوق المواطن البريطاني.
التهمة التي وجهت لها، وتسببت في تقديمها لاستقالتها، وخضوعها للمسائلة
البرلمانية، وتقديمها الاعتذار الرسمي والشخصي أمام أعضاء مجلس العموم، وربما ستقدم
لاحقاً اعتذارها إلى الشعب البريطاني، أنها أنفقت مبلغ أقل من ستة آلاف جنيه استرليني
من حسابها الخاص، ومن حر مالها الشخصي، الذي يمنحه إياها القانون البريطاني من
صندوق تعويضات نفقات النواب، والذي يحق لكل نائبٍ في مجلس العموم البريطاني
الاستفادة منه، أو اللجوء إليه لتعويض نفقاته الخاصة، مستفيداً مما يوفره صندوق
تعويض النفقات الخاصة.
أثبتت الصحافة البريطانية التي تناولت قضية ميلر على مدى أسبوعٍ كامل، أنها
صحافة حرة ومستقلة، وأنها مسؤولة وأمينة، وأنها تعمل لصالح شعبها، وتتفق مع
مصالحه، وأنها غير مأجورة، ولا تعمل لحساب آخرين، ولا تتقاضى رواتب من جهاتٍ
أجنبية، توجهها وترشدها، وتأمرها وتنهاها، وتوقفها وتحركها، وأنها تنطلق من ثوابت
وطنية، ومصالح شعبية، وأنها ليست موتورة ولا حاقدة، ولا عمياء ولا صفراء، فهي لا
تعتمد سياسة التشويه الشخصي، والتحريض الحزبي، ولا تفتري ولا تختلق، ولا تكذب ولا
تبهت، وإنما تعتمد على الحقائق البسيطة، وتمضي فيها حتى النهاية، بما يخدم مصالح
المواطنين، ويحقق الشفافية في الأداء، والصدق في العمل، والأمانة تجاه حقوق الشعب.
لعلنا نحسد المجتمع البريطاني أو نغبطه على النعمة الكبيرة التي يعيشها
مواطنوه، وعلى الشفافية اللافتة التي يتميزون بها، إذ نجحوا في تسليط الضوء على ما
يرونه أخطاءً شخصية في أداء من يقومون على خدمتهم، ومن يتقدمون لمساعدتهم، ممن
يسمون في السياسة وعلم الإدارة، بالوزراء أو الموظفين العموميين، الذين يتقاضون
رواتبهم من دافعي الضريبة البريطانيين، وينفقون على أسرهم مما تدفعه لهم الأسر
الإنجليزية.
فقد أخضعوهم للمحاسبة، وأجبروهم على تقديم استقالتهم، ولكن بعد بيان
أخطائهم، وتفسير تصرفاتهم، والكشف عن ممتلكاتهم، وتوضيح ما لُبُس على البريطانيين
فهمه، ولو كان شخصياً أو خاصاً، إذ لا خصوصية في التصرف بمال الدولة لمسؤولٍ أو
وزير، ولا قبول أبداً للخلط بين العام والخاص.
ويُعذر الشعب في عدم تمييزه بين العام والخاص، فمن أراد العيش بترفٍ وبذخ،
متميزاً عن مجتمعه، ومختلفاً عن محيطه، فليبتعد عن المناصب العامة، ولينأى بنفسه
عن إدارات الدولة وأموالها، وليعمل بجهده الشخصي، وبماله الخاص، وليبتعد عن مناطق
الشبهات، وأسباب الإتهامات، ليجب الغيبة عن نفسه، كي يجد له الناس تبريراً لفعله،
وتفسيراً لثرائه، وشكل عيشه.
ألا نتعلم نحن العرب من هذه الحادثة ونستفيد منها، ونأخذ العبر والدروس من
كل جوانبها، فنحن أولى بهذه الشفافية، وأحوج إلى مثل هذه المصداقية، والحساسية
المرهفة تجاه الشعب ومصالحه، ربما أن ما ارتكبته ميلر لا يشكل جريمةً في عرفنا
العربي، وفي تقاليدنا الرسمية والحكومية، فماذا يعني هدر ستة آلاف جنيه استرليني
ولو كانت من ميزانية الدولة، ومن خزانتها العمومية، بل ماذا يعني هدر ستة ملايين
دولار ومضاعفاتها، على طاولات القمار، أو في مراهناتٍ دولية، وسباقاتٍ ومبارياتٍ
مختلفة، وماذا يعني تقديم هباتٍ ومساعداتٍ ومكافئاتٍ بملايين الدولارات، لإعلاميين
متلونين، ولصحافيين مأجورين، ولحملة أقلامٍ مسمومة، ورواد الكلمة الخبيثة.
ألا يستحي كتابنا وحملة الأقلام ومقدموا البرامج السياسية من أنفسهم، الذين
يتقاضون أحياناً على الحلقة الواحدة ما أنفقته السيدة ميلر من مالها الخاص، بينما
يقومون كذباً بالتغطية على عمليات السرقة والنهب، وأعمال النصب والاحتيال، ويسكتون
عن جرائم التهرب الضريبي، ويدافعون عن عمليات التهريب، والتجارة الممنوعة، والاحتكار
العام، ويسكتون عن استغلال المسؤولين لمناصبهم في الدولة، وسلطاتهم في الحكومة،
وعن تسخيرهم لإمكانيات الدولة لمصالحهم الشخصية، ومنافعهم الخاصة.
أترانا نجهل أن وزيراً يعيد طائرة مدنية بكل ركابها من حيث أتت، لأنها لم
تقل ولده الذي كان يعبث في صالات المطار، أم أننا لا نعرف أن طائراتٍ خاصة تحمل
زوجات وأولاد المسؤولين إلى باريس ولندن وغيرها للتسوق والعودة في نفس اليوم، أم
لا نلاحظ أن السيارات الحكومية والعامة، تقوم على خدمة أطفال المسؤولين، وتجهد في
تلبية حاجات زوجاتهم، وتنقلهم وما يشترون إلى كل مكان، وهي سياراتٌ حديثة جديدة،
تحدث كل عام، وتستبدل مع كل منصبٍ ووزارة.
أم ترانا نجهل أن المسؤولين العرب لا يدفعون فواتير الهواتف الخلوية
والأرضية، وأن لهم أرقاماً خاصة مميزة، وأنهم يعفون من فواتير الكهرباء، ومن أجور
العلاج والطبابة، ومن كثيرٍ من رسوم الدولة، وأنه تصرف لهم ولخاصتهم بونات بنزين،
وبدلات سفر، ومكافئاتٌ شهرية.
وأنهم يحصلون ببساطةٍ شديدة، ودون منافسةٍ أو مزاحمة، على تقديمات الدول
للمساكن الشعبية، والمشاريع الصغيرة، والقروض البنكية الكبيرة، والتسهيلات
المصرفية، وأن يحصلون على منحٍ دراسية كاملة، لأولادهم وأحبائهم وأصهارهم على نفقة
الدولة، في أفضل الجامعات العالمية.
أليس جديراً بنا أن نتعلم من قضية ميلر، وأن نحترمها وشعبها، وأن نقدر تصرف
حكومة بلادها وصحافته، وأن نتعلم كيف نسقط من سدة المسؤولية، ونقصي عن الحكم
والقيادة، ونسحب الثقة والأمانة، ونحاسب ونحاكم، كل من ثبت إهداره للمال العام،
وتبين أنه يستخدم قدرات الدولة أو الحزب والحركة والتنظيم لمصالحه الشخصية.
هناك تعليق واحد:
المشكلة المتجذرة عند العرب عموماً والعراقيين خصوصاً ، هي المحسوبيات والمجاملات حتى في الأمور العامة التي تخص حقوق مجتمع ووطن ، فهم يصهرون علاقاتهم الشخصية بالأموروالمسؤوليات الحكومية العامة ولايحكمون على الأمور بموضوعية وحكمة وضمير فيما يقع تحت مسؤوليتهم ، وتلك هي أحد اسباب كوارثنا التي أدت بنا إلى الإحتلال أو إطالة أمد الإحتلال
فهناك الكثير من الأمور مازالت شاخصة أمام عيني حدثت ايام النظام الوطني من قبل موظفين كبار (مسؤولي مؤسسات) وأصغر في مؤسسات الدولة من دوائر وجامعات. وليتهم يتعلمون الدرس!
إرسال تعليق