لم تجر عادتنا في (وجهات نظر) أن ننشر بيانات سياسية من جهة ما، أياً كانت، لسببين، الأول ان الجهات التي تصدر تلك البيانات لديها مواقع رسمية على شبكة الإنترنت، وبالتالي فإن تلك المواقع أولى بنشر بياناتها، والثاني أننا لانريد أن نكون طرفاً في نشر بيانات أي جهة، مهما كانت متوافقة مع منطلقاتنا، على نحو يجعلنا وكأننا ننطق باسمها.
ولكن الرسالة التي وجهها الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في العراق، الشيخ الدكتور حارث الضاري، تلخص موقفاً وطنياً أصيلاً وتؤكد ثوابت العراق الوطنية في المرحلة القادمة التي شهدت الهزيمة المنكرة لقوات العدو الأميركي المحتل النظامية، ومن هنا ارتأينا نشرها على صفحاتنا.
مصطفى
...........
مصطفى
...........
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة مفتوحة من هيئة علماء المسلمين في العراق
إلى أبناء الشعب العراقي، بشأن الانسحاب الأمريكي من العراق، واستشراف المرحلة المقبلة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه الغر الميامين
أبناء شعبنا العراقي الأبي رجالاً ونساءً في الداخل والخارج
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي في (15/12/2011) سحب قواتهم الغازية من العراق وإنهاء حربهم فيه، بعد عدوانهم الآثم عليه عام (2003)، وتدميرهم له في كافة المجالات: الإنسانية والمادية والحضارية، وفتحهم أبوابه لكل قوى الشر الحاقدة عليه، والطامعة فيه، وتركهم له فريسة لحلفائهم وأعوانهم في العراق ولإيران وحلفائها فيه؛ انسحبوا تحت جنح الظلام، يجرون أذيال الخيبة والخسران، بعد ما يقرب من تسع سنين حاربوا فيها الشعب العراقي الرافض لاحتلالهم، باسم محاربة الإرهاب المزعوم، الذي لم يعرف له العراق وجودا قبل تدنيسهم لأرضه وقتلوا مئات الآلاف من أبنائه: رجالا ونساء شيبا وشبابا بلا رحمة أو وازع من ضمير، ورملوا ويتموا الملايين، وخربوا ودمروا، وتحالفوا مع كل أعدائه لنهب ثرواته وتمزيق أوصاله، وفعلوا فيه ما لم تفعله أشد الاحتلالات إجراما وتوحشا في التاريخ حتى تركوه كما قال أحد كتابهم: بؤرة للدبابير، وما كان لهم لينسحبوا منه، لولا ضربات المقاومة العراقية الباسلة، الموجعة لهم، وصمودها البطولي في مواجهتهم، وإيقاعها الخسائر الفادحة والكبيرة في قواتهم في كل أنواعها وصنوفها، في معارك ومواجهات لم يكونوا يتوقعونها، ألقت في قلوبهم الخوف والرعب، وجعلت قادتهم السياسيين والعسكريين في بعض مراحل الحرب، يستغيثون ويوسطون الوسطاء، لتخفيف ضرباتها عنهم، أو لتهدئتها، كما يقولون، أو يقول سماسرتهم.
وقد استمرت على زخمها، وملاحمها البطولية، حتى كسرت أنف الاحتلال الأمريكي وحطمت كبريائه، وأخرجت أمريكا من مركز الصدارة العسكرية في العالم، كما قال ذلك غير واحد من الخبراء العسكريين الغربيين وغيرهم، وجعلتها، تفكر وتفكر قبل اتخاذ أي قرار أو عمل عسكري في أية منطقة في العالم، وخير شاهد على ذلك، قول رئيسها أوباما قبل أيام: على الأمريكيين أن يتعلموا الدروس من الحرب في العراق، وقول وزير دفاع بريطانيا، وليام فوكس حين سئل عن إرسال قوات برية لليبيا: لقد فهم الجميع درس العراق.
لقد فعلت المقاومة العراقية الباسلة ما لم تفعله جيوش ودول، على الرغم من التفاوت الهائل في ميزان القوى بينها وبين قوات الاحتلال الأمريكي في العدد والعدد والإمكانات المادية والتكنولوجية، حيث بلغ عدد جنود الاحتلال في المراحل الأولى من الحرب أكثر من مليون جندي أمريكي باعتراف رئيسهم أوباما بذلك، عدا جنود الحلفاء والعملاء والمرتزقة.
وعلى الرغم من الحصار المادي والإعلامي لها، والتآمر عليها من الداخل ومن الخارج، أنجزت هذا الانجاز العظيم، الذي رفعت به رؤوس العراقيين، وأعزَّت به كل العرب والمسلمين، وحققت به قول الله تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) .
وفي كل الأحوال فإن انسحاب معظم قوات الاحتلال وإعلان الرئيس الأمريكي نهاية الأعمال الحربية في العراق هو انتصار لإرادة الشعب العراقي وصبره ومقاومته طيلة السنوات الماضية ومن حق العراقيين ومقاومتهم؛ أن يعدوه نصرا لهم وخيبة وخزيا لمشروعي الاحتلال العسكري والسياسي.
فتحياتنا وتهانينا لهذه المقاومة الباسلة، وللشعب العراقي الذي أنجبها، ولكل من أيدها، وساعدها، ودافع عنها، ووقف إلى جانبها، ودعاؤنا لشهدائها الأبرار بالرحمة والرضوان، ولأبنائهم وعوائلهم بالعز والفخار. وتبا لكل من وقف في وجهها، أو هون من أمرها، أو تآمر عليها، أو تاجر باسمها، أو بخل عليها، وسيسجل التاريخ ما لهم وما عليهم، ويوم ذاك ستبيض وجوه وتسودُّ وجوه.
أبناء شعبنا العراقي الكريم
ينبغي أن نعلم، وتعلم معنا وسائل الإعلام التي تتحرى الحقيقة: أن الاحتلال الأمريكي لم ينسحب من العراق انسحابا كاملا كما أعلن، وإنما أبقى على قوات كثيرة ومؤثرة وبمسميات متعددة، ومن هذه القوات فرقة عسكرية مزودة بكل صنوف الأسلحة القتالية، وأبقى على ثلاثة آلاف فرد من القوات الخاصة، بعد إعادة تدريبها في أمريكا، وهي مزودة بأسلحة خاصة، وبعجلات مدنية مدرعة للقيام بأعمال خاصة، كالمداهمات والاعتقالات والاغتيالات ومساندة القوات الحكومية عند الحاجة، كما أبقى ستبقي على ثلاثة آلاف وخمسمائة عسكري لحماية الأجواء العراقية، كما ذكرت ذلك الحكومة الحالية نفسها، وعلى ستة عشر ألف آخرين لحماية السفارة والقنصليات الأمريكية في العراق، وفضلاً عن ذلك فهناك عدة آلاف، ممن يسمون بالمدربين والمستشارين والمساعدين وغيرهم، إلى جانب 150 شركة أمنية كما اعترف بذلك رئيس الحكومة الحالية نفسه. وهذا ما هو معلن من قبل الأمريكان وحلفائهم في بغداد، أما ما هو غير معلن فالله أعلم به؛ وعلى هذا فالأمريكان لم ينسحبوا انسحابا كاملا كما أعلنوا، وكما يتوهم بعضهم، وإنما هم باقون في العراق عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، ونفوذاً، ولا يشكك في ذلك إلا مكابر أو مستفيد .
وإذن.. فعلينا أن نعلم أن العراق لا يزال محتلا من قبل أمريكا، وميداناً للهيمنة السياسية والأمنية الإيرانية، وأنه فاقد لسيادته وحريته وقراره السياسي، بخلاف من يقول غير ذلك ممن قد لا يعرف معنى السيادة والحرية الحقيقيتين، أو لا يهمه أمرهما، كما أن العراق لم يخرج من الفصل السابع للأمم المتحدة حتى الآن على الرغم من ادعاءات أصحاب العملية السياسية، عند موافقتهم على اتفاقية الإذعان مع أمريكا.
يا أبناء شعبنا العظيم
لقد أثبتت الأحداث والوقائع التي مرت بالعراق وشعبه منذ عام 2003م إلى اليوم: أن العملية السياسية التي وضع الاحتلال الأمريكي أسسها، واشرف على تنفيذها وحمايتها، قد ثبت فسادها وفشلها للقاصي والداني، وأنها كانت وما زالت وراء كل الخراب والدمار والمآسي التي ألمت بالعراق وشعبه؛ لأنها بنيت على أسس باطلة ونوايا سيئة، وما يجري اليوم في الساحة العراقية من أحداث وما يسال فيها من دماء، وتناصر بين أطراف الحكم، وتهديد بفتح ملفات الإجرام والفساد والعمالة لهذا الطرف أو ذاك،؛ لهو كاف في الدلالة على فسادها وفشلها، وفشل المراهنين عليها؛ لأنها لم تجمع في حاضنتها غالبا إلا الفاسدين والمجرمين الذين لا تهمهم إلا مصالحهم ومصالح أسيادهم.
ولعلكم تلاحظون أبناء شعبنا الكرام: أن أصحاب العملية السياسية، حين يتوافقون على المصالح والمغانم، يتصالحون ويتصافحون، وتهدأ أصوات التصريحات والتهديدات، وحين يختلفون على المصالح الخاصة، وليس على مصالح الوطن والمواطن، تعلو الأصوات بالتهديدات وفتح الملفات، والمطالبة بحقوق المظلومين والمظلومات والمهمشين والمهمشات، وربما المعتقلين والمعتقلات، وكأن المتكلمين لم يكونوا من المشاركين في ذلك على الأقل بسكوتهم عنه، وعدم تنبههم إليه إلا عندما يختلفون.
والأخطر من ذلك كله: أنهم إذا اتفقوا تكلموا بالوطنية والشفافية، وقالوا: لا طائفية، وإذا اختلفوا ذهب كل منهم يتكلم بالطائفية والفئوية، ويخوف من الحرب الأهلية، وكأن الشعب العراقي ألعوبة بأيديهم، ولا يعرف من هم، ولا الجهات التي تقف ورائهم، ولا يعرف ما فعلوا بالعراق من خراب ودمار، وما جلبوا له ولشعبه من أذى وبؤس وشقاء.
لذا فإننا ندعو أبناء شعبنا العراقي الصابر، بكل فئاته ومكوناته، إلى عدم الاستماع لكلام هؤلاء السياسيين جميعا، سنة كانوا أم شيعة، عربا كانوا أم أكرادا، وعدم تصديقهم أو التعويل عليهم في شيء، بعد أن عرفوهم على حقيقتهم وعرفوا متاجرتهم بالدين والوطن ومصالح العراق العليا، وخدمتهم لمشاريع أعداء العراق وشعبه.
يا أبناء شعبنا العظيم
ما زال الوضع في العراق محكوما من قبل الطرفين الذين تحكما فيه في السنيين الماضية من عمر الاحتلال البغيض، وهما أمريكا وإيران وأداتهما: المالكي، وهما أشد قبضة عليه من أي وقت مضى، وأكثر دعما للمالكي وتأييدا له، لما قدم لهما ويقدم من خدمات؛ مما جعله يتعالى على غيره ويستبد بالسلطة، ويحاول التمسك بها بأي ثمن ولو كان بالمزيد من الإقصاء وإراقة الدماء وتبديد الأموال والتجويع والحرمان لأبناء الشعب العراقي بذرائع وهمية وإدعاءات باطلة؛ لذا نراه قد أخذ بتصعيد لهجته ضد خصومه ومخالفيه بعد إعلان الانسحاب الأمريكي، وكثف من أعماله الأمنية وانتهاكاته لحقوق الإنسان؛ إذ ازدادت وتيرة الاعتقالات والمداهمات والاغتيالات، والتهديدات والاتهامات، لخصومه التقليديين وحتى لشركائه السياسيين، بذرائع واهية ومتعددة، بدل أن يعمل على تهدئة الأوضاع وتخفيف الاحتقان، ببعض الخطوات والأعمال الإيجابية، مما أدى إلى تردي الوضع في العراق أكثر من أي وقت مضى: أمنيا وسياسيا واجتماعيا، وجعله مرشحا لكل الاحتمالات السيئة والخطيرة لا قدر الله.
ومن المتوقع أن يستغل المالكي المرحلة القادمة لتصفية شركائه السياسيين، ومن تطال يده من الشخصيات الوطنية، ويزيد في وتيرة الاعتقالات، والظلم بحق الناس، وصولاً إلى هدفه في الهيمنة الدكتاتورية الكاملة على مفاصل السلطة، وإخضاع العراق للنفوذ الإيراني تماما.
وبناءً على ما تقدم نقول لأبناء شعبنا العزيز:
لقد صبرتم وتحملتم ما لم يتحمله غيركم من الأذى والحرمان على يد الاحتلال الأمريكي وأعوانه، وأنتم تأملون أن يرحل الاحتلال ويصلح الله أمر من تحكموا في رقابكم في ظله، وإذا بهم _وكما نعلم من أحوالهم_ يكابرون ويدافعون عن باطلهم، ويصرون على الاستمرار على إجرامهم وفسادهم واستبدادهم وإقصائهم لغيرهم، وخدمتهم لأعداء دينهم وبلدهم.
وليس أمامكم وأمامنا يا أبناء شعبنا من مخرج سوى الاستعداد للمرحلة القادمة التي ستكون صعبة، ولكنها بإذن الله ـ كما تدل المؤشرات ـ ستكون المرحلة الأخيرة من عهد الظلم، وبداية النهاية للظالمين .
وهذا الاستعداد إنما ينبغي أن يكون من خلال العمل على الآتي:
أولا: الاستمرار في دعم مشروع تحرير العراق تحريرا كاملاً وناجزاً، وإعادة السيادة الكاملة للعراق، وإنهاء العملية السياسية، وما تمخض عنها من حكومات وسياسات، وما أفرزته من دستور خطير وتشريعات وقوانين واتفاقات ضارة، وذلك إنما يتأتي بالاصطفاف الكامل مع أبناء المقاومة العراقية، وتوفير الدعم لهم، والبيئة الحاضنة لجهادهم.
ثانيا: دعم الحراك الشعبي السلمي، ودعوة القوى العراقية الخيرة وأفراد الشعب العراقي جميعا إلى الالتفاف حول قلبه النابض بحب وطنه (شباب العراق) وشد أزرهم؛ من أجل التمسك بخيار الرفض المطلق للعملية السياسية، والاستمرار على هذا النهج، وتوسيع نطاقه وتنويع آلياته وزيادة زخمه؛ وصولاً إلى تحقيق الأهداف المرجوة منه في التحرير والتغيير الكاملين.
وفي هذا السياق نبارك دعوة العشائر العراقية مؤخرا إلى اعتماد الثورة سبيلاً للخلاص، ونشد على أيديهم، وندعو جميع أبناء شعبنا إلى التفاعل مع دعوتهم، والاستعداد ليوم يؤخذ فيه الحق من غاصبيه، ويعود إلى نصابه ومستحقيه.
ثالثا: التمسك بوحدة العراق، والابتعاد عن المشاريع التي تنال من هذه الوحدة كالفدرالية وغيرها، والتي أسوء ما فيها أنها تصرف أنظار الناس عن اعتماد سبيل الثورة للقضاء على الظلم، واجتثاثه من جذوره، وإشغالهم بمشاريع جانبية، موهمة بأنها منجاة من الظلم، وهي ليست كذلك.
ولابد أن نشيد بمحطات مضيئة في بيان صدر مؤخرا من مثقفي وأحرار العراق، وكان عدد كبير من الموقعين عليه من إخواننا المثقفين الأكراد، ناشد فيه الموقعون شعب العراق بمختلف قومياته ودياناته ومذاهبه أن يتصدوا للقوى المتنفذة في العملية السياسية بدون استثناء لأنها ـــ بحسب تعبير البيان ـــ هي المسؤولة عن آلامهم وعذاباتهم، فبعث البيان برسالة مفادها أن أبناء العراق اليوم متفقون بكل أطيافهم وقومياتهم على ضرورة إزاحة المفسدين في العملية السياسية التي أفرزها تدخل دولي، وإقليمي.
ومن دون شك فإن الهدف الأسمى للعراقيين جميعا لا يقتصر على إزاحة المفسدين في العملية السياسية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إلغائها من الجذور لأنها كما ذكر البيان صنيعة تدخل دولي وإقليمي، ومن ثم العمل على تشكيل حكومة عراقية في ظل إرادة حرة للشعب العراقي، وعبر انتخابات نزيهة، تضمن مشاركة العراقيين جميعا بكل مكوناتهم وأعراقهم، وتفرز ممثلين حقيقيين للشعب العراقي، قادرين على كتابة دستور يحقق آمال جميع مكونات الشعب العراقي وطموحاتهم، ويضمن لهم التداول السلمي للسلطة بعيداً عن الآثرة والأنانية والإقصاء؛ وبذلك يتجاوزون النفق المظلم الذي يعيشون فيه، وهذا لا يتأتى إلا بعد التحرير والتغيير الشاملين.
وختاماً: فإننا ندعو القوى المناهضة للاحتلال والقوى الوطنية العراقية كافة، جماعات وأفرادا، أحزابا ومنظمات، من زاخو وحتى الفاو إلى التحاور والتفاهم والبدء بلقاءات تشاورية جادة فيما بينها لغرض مواجهة المرحلة القادمة بما يناسبها، فنحن على الرغم من صعوبة هذه المرحلة، وشدة وطأتها، مقبلون بإذن الله على مشارف النصر الكبير، والتحرير الكامل من الاحتلال وعملائه، وحلفائه وعملائهم.
وفقكم الله جميعا.. وحفظكم ورعاكم..ونصركم على أعدائكم وخاذليكم وظالميكم.
(وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ )
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأمانة العامة لهيئة علماء المسلمين في العراق
6/صفر/1433هـ
31/12/2011م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق