وجهات نظر
علي الصراف
منذ فجر التاريخ، كان الصراعُ الأولُ صراعا بين الإنسان
والحجر. والحضارةُ إنما بدأت عندما تمكن الانسان من تحقيق انتصاره الأول على
الطبيعة، بأن أعاد صياغة الحجر، ليكون رمحاً، وليكون منزلاً.
حقق الإنسانُ الأول إنتصاره، ولكنه ظل يصارع وينتج ويوفر
لنفسه مداخل أخرى للحياة. وفي كل منعطف، كان عليه أن يصمد ويتأمل ويسترشد لكي
يغلب.
وكلما كانت الطبيعةُ أقسى عليه، كلما صار عُودُه وعُودُ
تجاربه أصلب.
العمانيون يشبهون أشجار بلدهم بشدة البأس والمراس. ولكن
مع بعض فارق. هي تصارع قسوة الطبيعة وتغلب بالبقاء. ولكنهم يغلبون مرتين. مرة ببأس
البقاء، ومرة بما يجعل مراسهم فيها حنوا إنسانيا. وتلك لعمري، غلبة أعظم. فهم
يصارعون قسوة البيئة والمحيط، والدنيا بأسرها، فتجدهم كلما شح المطر، انغرسوا
لمسافة أبعد في أرضهم. وتجدهم، كلما نضبت موارد، انشأوا موارد اخرى. وكلما مروا
بمنعطف، غلبوه بالتأمل والرشد. ولكن قلوبهم تظل رخوة، لينة.
أيام قليلة كانت تكفي لكي ترى جبالا من أقسى ما يمكن
للقسوة أن تكون. ولكنك ستعثر على أناسٍ برخاء الفردوس وليونتها. وليس في الأمر
تناقض. فقسوة الحجر، إنما ألانت القلوب بنصر مكتمل للإنسان في الإنسان، وليس فقط
للإنسان على الحجر.
لو كان نصر العمانيين ناقصا، ما كانوا ليكونوا ما هم
عليه، من عطف وطيبة ورحابة صدر.
ذلك كان نصرهم الأول. غلبوا قسوة الطبيعة، بطبع لا يعرف
الشدة ولا العنف ولا القسوة.
طيبون كلاماً، طيبتهم سلوكاً. يتحدون في ممشاهم على تلك
الجبال كل وجه من وجوه الغلاظة المحتملة في بيئة اغلظت عليهم، فارخوا لها عنان
الصبر والأناة.
هناك يمكن أن تتحدث بأي لهجة، بل وبأي لغة، من دون ان
تبدو غريبا.
فقط الشعوب المكتملة النضج هي التي يمكنها ان تستقبل
الغريب فتوحي له انه بين أناس يعرفهم، وانه ترك الغربة وراءه. والعُمانيون بدلاً
من أن تستأذنهم، يستأذنوك، فلئن كنت ضيفاً، فكأنك أنت رب المنزل.
ينحت العمانيون في الحجر، منذ نحو نصف قرن، من عصر نهضتهم
الحديثة. والمقارنة، لمن شاء أن يقارن بين الماضي والحاضر، سوف تبدو مستحيلة.
تحتاج لكي تستوعب المتغيرات، بكل ما تراكم عبر السنوات،
أن تؤمن بأن المعجزات ممكنة. وأن إدارة الإنسان لا غالب لها إذا انتظمت في عمل
مخلص وجاد.
عُمان، في واحدة من وجوهها، أسطورة من أساطير الزمان.
أنظر من بعيد لتتأمل كيف انقلب التاريخ الى هذا المكان. ولا تسأل: كيف دخل الى تلك
الوهاد والوديان اللانهائية، ليبني صروحا للنجاة، وتاريخا للمعنى؟
ولعلها أسطورة من أساطير الجغرافيا، فثمة لانهائية أخرى
موجودة في القمم. انها تتناثر حتى يكاد من المستحيل أن تعدها.
وتلك القمم ربما كانت بعدد العمانيين أنفسهم! واعني،
بعدد أولئك الذين ينحتون حضارة خالدة في الحجر، برغم كل قسوة الحجر.
لم أذهب الى كل مكان. ولكن الدهشة ظلت تمتلكني كلما رأيت
طريقاً تم فتحه، أو مدينة عامرة، أو أرضا تمت تسويتها، أو عين ماء تجري... بشق
الصخر.
وعُمان لا تراكم الحجر! إنها تبني. ولكنها لا تجعل من
الحجر ركاماً يهيمن على الأفق. انها توظفه بأحسن ما يمكن للتوظيف الجمالي أن يكون،
لتقيم منه عمارة إنسانية التأويل.
عُمان بلدٌ يحرص على أفقه الخاص! وذلك أمر تستطيع أن
تلحظه في العمران، كما تستطيع أن تلحظه في السياسة أيضا.
ولا شيء شاهقاً في عُمان أكثر من كرامة الإنسان وأمنه!
وثمة عينٌ تنظر الى المستقبل، وتحسب حسابه بدقة المتأني.
بل بعبقرية الذي يعرف انه، إذ ينحت في الحجر، فانه لا يمتلك الكثير من رفاهية الحق
بالاستعجال.
يمكن لحضارة الطين أن تُخطئ، فتنحسر، فتعود لتنهض من
جديد. ولكن نوعاً مختلفاً من العلاقة مع الوجود، تلك التي تنشأ في بناء حضارة تملي
عليها البيئة أن تكون صلبة، متماسكة، وتمضي قدماً... فقط!
تلك هي عُمان اليوم.
انها تبني بالحجر، لينبع من قسوتها بشرٌ من أعذب البشر.
وكأنهم ماءٌ كتب عذوبته بقلم من حجر!
وإذا أحبَّتكَ سلفاً ومن دون شروط، فلا تستغرب. لأنه من
طبيعتها أن تسبق الحبَّ اليك.
في البدء قلت في الوديع من أهلها:
حسبتُ أني غالبٌ في محبته حتى عمّني بعطره المغلوبُ
وودعتها، تاركا خلفي شعورا يقول:
غزتني في ثرى العمر شيبةٌ وأثرتْ من هواكِ بما لا يشيبُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق