وجهات نظر
أربيل - موفق محمد
لم تكن السيدة الكردية زكية رسول، تدرك انها ستخسر عينيها الاثنتين
وتحصل على وجه مشوه ومحجرين خاويين، لمجرد انها وثقت بنظام صحي يكلف حكومة كردستان
العراق أكثر من ربع بليون دولار سنوياً ووافقت على تلقي جرعة من «حقنة اربيل
القاتلة» في أشهر وأكبر مستشفى حكومي في كردستان.
بدأت حكاية الحاجة زكية رسول ومواطنيها الـ29، حين تلقوا في إحدى
صالات مستشفى رزكاري الحكومي يومي 3 و4 نيسان (أبريل)، جرعة في العين من عقار
افاستين (avastin) الذي اشترته وزارة الصحة
الكردستانية من مهرب تركي يورد الأدوية لشركة هوز المتعاقدة مع الحكومة، بعد اشهر
من تأكيدات حكومة الاقليم بتحقيق نقلة نوعية في واقع الاقليم الصحي.
يقول سرو عمر، وهو ابن أحد ضحايا الحقنة القاتلة، انه عاد مع والده
الى المستشفى بعد ساعات من تلقيه الحقنة بعد ان بدأ والده بالصراخ من ألم عينيه،
لكنه فوجئ بالعشرات من الضحايا الذين تلقوا الحقنة مع والده وهم يصرخون من الألم
وعيون بعضهم تنزف دماً.
يتذكر عمر أن الارتباك كان يسود المكان والأطباء يتنقلون بين
المصابين في محاولة لايقاف الآلام والنزيف بعلاجات مسكنة، من دون ان يجرأوا على
الاجابة عن اي سؤال حول ما حدث لعيون الضحايا.
منذ ذلك اليوم، كما يقول عمر، بدأت رحلة الآلام التي عاشها الضحايا
بدءاً من مستشفى رزكاري في مدينة اربيل مروراً بمستشفى ويست آي التركي، وليس
انتهاء بمستشفى هايدل بيرك الالماني، وهو المستشفى ذاته الذي خير فيه الاطباء
الالمان تسعة من الضحايا بين اقتلاع اعينهم، او انتظار تداعيات خطيرة فيما لو سرت
العدوى البكتيرية من عيونهم الى باقي اجزاء اجسادهم.
أحد هؤلاء، كان عامل البناء عمر حسن الذي اقتلع الأطباء عينه اليمنى
فيما توشك اليسرى ان تفقد آخر بصيص للضوء خلال الأشهر القليلة المقبلة. حسن لا
يعرف حتى الآن كيف انتهى الأمر به هكذا، فهو لم يفعل شيئاً سوى انه وثق بأطباء
مستشفى رزكاري حاله حال الملايين من ابناء كردستان العراق.
حين التقاه كاتب التحقيق، كانت دموعه تنهمر بلا توقف من عينه
الوحيدة، قال «أصبحت الآن أقل من نصف انسان، بوجه مشوه وبعين واحدة ضعيفة».
لم تكن قضية «حقنة اربيل القاتلة» هي الأولى من نوعها في كردستان
العراق، فقبلها اثارت حوادث وفاة او تشوه مرضي بسبب تلقيهم أدوية فاسدة مهربة،
ردود أفعال غاضبة أجبرت الحكومة على تكرار وعودها بإخضاع الادوية لفحوصات مخبرية
من قبل شركة (FDAS) البريطانية المتخصصة، قبل
السماح باستعمالها في الصيدليات والمستشفيات.
كشفت فضيحة حقنة اربيل القاتلة، في شكل مؤكد، كما يقول الناشط المدني
جمال خيلاني، ان النظام الصحي في كردستان ليس أكثر من «قلعة من الورق المقوى يمكن
ان تنهار في اية لحظة»، مبيناً أن أكثر من ستة اشهر مرت على الحادثة «لم تعلن الى
اليوم اي جهة رسمية سبب تلك الكارثة، بل ان وزارة الصحة اعلنت سلامة ذلك العقار
المهرب واكتفت بتأكيد استمرار التحقيقات مع المتورطين في عملية التهريب والشراء
غير القانوني لتلك الحقن، والذين خرجوا جميعاً من السجن بكفالات».
يشير خيلاني الى اعتراف وزير الصحة في اقليم كردستان ريكوت حمة رشيد
خلال مؤتمر صحافي عقده بعد خمسة ايام من الحادثة، بأن هناك سلسلة من الخروقات
والمخالفات حدثت في عملية شراء العقار الطبي الذي يحمل الاسم التجاري التركي
(بيفاسيزوماب Bevacizumab)،
والذي تسبب في الحادثة.
الوزير حمة رشيد أقر بأن شحنة الافاستين تم تهريبها من تركيا عبر
معبر ابراهيم الخليل، وان من قام بعملية التهريب هو تاجر تركي يعمل لحساب شركة
مرخصة في الاقليم هي شركة هوز. ويضيف الوزير ان دائرة صحة اربيل قامت بشراء الحقن
من الشركة من دون القيام بعملية الفحص، وان وجبة الدواء احتوت على 73 حقنة من هذا
العقار، وبسعر 80 مليون دينار (66.5 الف دولار).
ولم يوضح الوزير أسباب حصول تلك التجاوزات واستسهال خرق القوانين في
توريد ادوية خطيرة، لكن مسؤولاً (أ.ز) في شركة متخصصة بشراء الادوية، قدم الاجابات
لكاتب التحقيق، مبيناً ان ذلك يعود لسببين «الأول تأخر صدور نتائج فحص الأدوية
التي تتطلب أحياناً اشهراً، والثاني لارتفاع كلفة عمليات الفحص، وهو امر تشكو منه
معظم الشركات الموردة للأدوية»، منبهاً الى ان ذلك يشجع عمليات التهريب.
وينبه الصيدلاني عمر فتاح، الى الأرقام التي طرحتها وزارة الصحة عن
قيمة الشحنة، فهي تشير صراحة الى تورط الوزارة نفسها بالسماح لأنواع رديئة من
المنتجات الطبية بالتداول داخل مستشفياتها، فالسعر المعروف عالمياً لحقنة
الافاستين لعبوة الـ400 ملغم، بحسب فتاح، يصل الى 2500 دولار للحقنة الواحدة التي
تباع النسخة التركية منها في الاقليم بسعر 1100 دولار، فيما تباع عبوة الـ100 ملغم
في اسواق الاقليم بسعر 380 دولاراً. هذا يعني كما يقول فتاح، ان الوزارة اشترت
شحنة من 73 حقنة قيمتها لا تتعدى 25 الف دولار، بفارق اكثر من 40 الف دولار.
و «حقنة اربيل القاتلة» التي تسببت بالكارثة، كانت عبارة عن نسخة
مقلدة من منتج آفاستين الأميركي المخصص لمعالجة بعض الأورام السرطانية والذي اثبتت
التجربة العملية صلاحيته لمعالجة بعض امراض شبكية العين بنجاح من دون ان يرخص
باستخدامه.
دواء غير مرخص
وعلى رغم ان المنتج الأصلي الذي تكفي عبوة من فئة 100 ملغرام لتأمين
40 جرعة لمرضى العيون لا تكلف الواحدة منها 60 دولاراً، وهو ثمن زهيد قياساً
بالعقار المرخص عالمياً (لوسينتيس) والمخصص للعيون حصراً فهو يكلف قرابة 1500
دولار للجرعة الواحدة. وفق فتاح وصيادلة آخرون التقى بهم كاتب التحقيق، الا ان
حكومة اقليم كردستان فضلت ان تستورد لمواطنيها حقنة مقلدة زهيدة وغير مخصصة للعيون
بدلاً من العقار الاصلي.
وجاء توريد تلك الحقنة من تركيا، في وقت حذرت الوكالة الأميركية
للأدوية في الفترة نفسها من استخدام منتج افاستين التركي الذي يحمل أسم (ALTUZAN) بسبب ظهور عبوات مزورة من العقار في اسواق الولايات المتحدة مصدرها
تركيا. ما يضع احتمالاً ان تكون بعض الحقن التي وصلت الى مستشفيات الاقليم مزورة
ايضاً.
اعتراف بسلسلة الخروقات
اعتراف الوزير الكردستاني بالخروقات التي حصلت جاء كما يعتقد سيروان
عمر، وهو ناشط مدني تابع القضية منذ البداية وساهم مع آخرين في تأسيس حركة «العين
هي العين»، كان خاضعاً للجو العام الذي انتشر آنذاك في كردستان، نتيجة التغطية
الاعلامية الكبيرة للحادثة والمخاوف التي انتشرت بين صفوف مواطني كردستان من ان
تكون كل الادوية التي يتلقونها في المستشفيات على شاكلة حقنة اربيل القاتلة. وكما
يبدو، كما يقول (س. ج) وهو ابن احد الضحايا المصابين بالعمى، فإن الحكومة التي
وعدت بمحاسبة جميع المتورطين، بدأت بالتراجع عن اعترافاتها ومسؤوليتها عن الكارثة
تدريجاً، فمرة تقول إن المتسبب هو التاجر التركي بكر، ومرة تقول انها شركة هوز،
ومرة تقول إن الأمر يتعلق بملابسات طبية غامضة.
اعترف المهرب، او «التاجر بكر التركي» كما يعرف نفسه وتعرفه وزارة
الصحة، امام وسائل الاعلام بعد ان اطلقت السلطات الكردية سراحه بكفالة، بأنه حصل
على وجبة حقن الافاستين التي طلبتها منه شركة هوز في شكل عاجل، من طريق التجوال
على الصيدليات التركية لشراء قطعتين او ثلاثة من كل صيدلية، ضماناً لعدم كشف امره
من السلطات التركية التي تمنع المتاجرة بالأدوية على هذه الطريقة. على امل توريدها
لاحقاً الى شركة هوز التي اتفقت سلفاً على بيعها لوزارة الصحة الكردستانية.
المهرب بكر التركي، اعترف ايضاً انه قام بنقل الشحنة المهربة في احدى
الشاحنات وعبر معبر ابراهيم الخليل الذي يربط كردستان بتركيا. وهذا يعني كما يؤكد
الصيدلاني أنور مجيد، وهو ايضاً باحث يحمل شهادة الماجستير في الصيدلة، أن هناك
احتمالاً كبيراً بأن تكون الآثار السيئة للعقار ناتجة من سوء التخزين. خصوصاً ان
شروط خزن حقن الافاستين أمر غاية في الدقة والخصوصية، اذ انها يجب ان تبقى مبردة
(2 - 8 درجات مئوية) كحد اقصى، مع تجنب رجها، أو تجميدها، أو تعريضها للضوء.
لم ينفِ مسؤول في دائرة صحة اربيل المعلومات المتعلقة بأن الوزارة
كانت تلجأ الى توفير الادوية الملحة بهذه الطريقة لتغطية حاجة المستشفيات، لكنه
برر الأمر بأن استيراد بعض الادوية المهمة من دون فحوصات هو امر قانوني وفقاً
لتعليمات مديرية سيطرة واستيراد الادوية والمستلزمات الصحية، فهي تجيز استيراد بعض
الادوية السرطانية عند الحاجة الملحة من دون اخضاعها للفحوصات، كونها تستخدم
بكميات محدودة في المستشفيات الحكومية. بشرط ان تكون الادوية معتمدة من هيئة
الادوية العراقية، وموافقاً عليها من قبل لجنة الاستلام في الدوائر الصحية.
لكن مسؤولاً رفيعاً آخر، ناقض ما ذكره زميله بالقول إن هذه التعليمات
قديمة وتعود الى عام 2010 ولم يعد يعمل بها الآن.
في كل الاحوال، لا يقارن حجم التناقض في احاديث مسؤولي وزارة الصحة
بشأن تعليمات إدخال الادوية المهمة، بالتناقضات الحادة التي اعقبت حادثة «الحقنة
القاتلة»، خصوصاً بعد ان اعلن وزير الصحة اعتقال السلطات للمهرب بكر التركي واحالة
شركة هوز للقضاء، ثم الاعلان لاحقاً عن اطلاق سراح الجميع والتوجه لمتابعة امكانية
ان يكون سبب الكارثة «خطأ طبياً».
الدكتور سامي متي، قال لكاتب التحقيق ان عقار الافاستين تم استخدامه
لفترة طويلة في مستشفيات كردستان من دون ان يتسبب بأية مشاكل. لكن، قياساً الى
الطريقة الخاصة المطلوبة لتخزين هذا العقار من حيث درجات الحرارة المنخفضة والحفظ
بعلب خاصة، والتي تختلف في الكثير من تفاصيلها عن بقية الادوية، يمكن ان يكون جهل
المورد التركي الذي نقل العقار بالشاحنة هو ما تسبب بإتلاف شحنة الادوية، او بعضها
على الأقل.
مسؤول بارز في شركة هوز التي استلمت شحنة الحقن من المهرب التركي بعد
نقلها من تركيا الى كردستان داخل شاحنة عادية تعرضت للتفتيش عدة مرات، يرفض
الاعتراف بتقصير شركته من حيث مطابقة موادها الكيماوية للمواصفات او سوء النقل
والتخزين، فهو يؤكد أن «الفحوصات التي أجريت للعقار من قبل الشركة البريطانية
المتخصصة، أثبتت ان العقار ذو نوعية جيدة ومطابقة للمواصفات، وهذا ما يخلي مسؤولية
الشركة في شكل كامل»، اما المتبقي، كما يقول المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن هويته
لعدم تخويله بالتصريح «فهو يقع على عاتق الوزارة لوحدها». في إشارة واضحة الى ان
الخطأ حدث اثناء استعمال الحقنة وليس اثناء النقل او التخزين.
ملاحظة:
أنجز التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج)
وبإشراف سامان نوح ومحمد الربيعي. ونشر هنا.
هناك 3 تعليقات:
اوكار الفساد في العراق تحميها مافيات الفساد الحكومي
الفساد ينخر بلادنا من اقصاها الى اقصاها
الفساد الشامل الكاسح منتشر في العراق المحتل مثل الطاعون .
مرض السرطان القاتل او اي مرض لا علاج له الا الكي او البتر..
إرسال تعليق