هذه مقالة مهمة، يستعرض فيها الدبلوماسي العراقي السابق، والكاتب الصحفي والأكاديمي المعروف، عبدالله الغني، ملامح أساسية من سياسة العراق الخارجية، انها ليست مقالة فحسب، بل هي دراسة علمية دقيقة تستند إلى خبرة كاتبها في المجالين الإعلامي والدبلوماسي، وهذا هو الجزء الأول منها، الذي يتحدث عن المسار العربي لسياسة العراق الخارجية.
الجزء الثاني هنا
وتأتي الدراسة في إطار منهج اللجنة التحضيرية للاحتفاء بذكرى استشهاد القائد البطل صدام حسين.
الجزء الثاني هنا
وتأتي الدراسة في إطار منهج اللجنة التحضيرية للاحتفاء بذكرى استشهاد القائد البطل صدام حسين.
سياسة العراق الخارجية ودور الرئيس الشهيد في تعبيرها عن مصالح العراق الوطنية العليا وعوامل قوته وعبقريته // الجزء الأول :
نهج جديد في السياسة العربية يقوم على التعامل مع القضايا القطرية من منظور وحدة المصير والأمن القومي العربي
بقلم: د. عبدالله الغني
ليس ثمة بلد واحد غير العراق حباه الله بكل طاقات التأثير العميق واللامحدود وبعيد المدى في محيطه الإقليمي وفي العالم . أن العراق (حسب الصديق الاكاديمي العراقي د. عبد الواحد الجصاني في مقالته "عبقرية العراق وتهافت دعاة تقسيمه" في 30/10/2011 ) "اتحدت فيه عبقرية المكان وعبقرية الزمان مع عبقرية الإنسان"، فأنتجت مسيرة متواصلة من المساهمات الحضارية الكبرى بدأت بالفتح العراقي العظيم المتمثل باختراع الكتابة في مملكة سومر العراقية اكثر من 5 ألاف سنة قبل الميلاد الذي وضع الأساس للحضارة البشرية، وتواصل عبر تأسيس أول دولة في التاريخ نقلت الإنسان الى حكم القانون عبر أول تشريعات قانونية في تاريخ البشرية (شريعة أورنمو في مملكة سومر) ثم عبر الإنجاز الحضاري الكبير المتمثل بشريعة حمورابي، وهي أول شريعة قانونية متكاملة في تاريخ البشرية، فضلا عن الكثير من الإكتشافات والإنجازات العلمية والقانونية والثقافية التي قدمت للإنسانية الكثير في جميع الميادين.
ولم يقتصر الدور الريادي للعراق على الفعل الحضاري بالمقاييس المادية بل جعل الله العراق منشأ ديانات التوحيد ومنه انطلق أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ينشر دعوة التوحيد. ولذلك اشتمل دور العراق الريادي والتأسيسي في الحضارة الإنسانية على جانبيها المادي والروحي. ومن الطبيعي أن ينشر العراقيون ما انطلق من ربوعهم من أنوار الحضارة والعمران وما تميزوا به من قدرات على الفعل الحضاري في إقليمهم وما يجاورهم من أقاليم، ويؤسسوا بذلك امبراطوريات كبرى امتدت من مصر غربا الى ايران شرقا الى تركيا شمالا الى الجزيرة العربية جنوبا. كل ذلك كان في فجر التاريخ وقبل بزوغ فجر الإسلام الذي بفضله احتضن العراق الحضارة العربية الإسلامية الكبرى في إطار الإمبراطورية العربية الإسلامية التي كانت لعدة قرون مركز التنوير والتقدم والإبداع والإشعاع الحضاري والعمران في العالم أجمع.
ولم يقتصر الدور الريادي للعراق على الفعل الحضاري بالمقاييس المادية بل جعل الله العراق منشأ ديانات التوحيد ومنه انطلق أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ينشر دعوة التوحيد. ولذلك اشتمل دور العراق الريادي والتأسيسي في الحضارة الإنسانية على جانبيها المادي والروحي. ومن الطبيعي أن ينشر العراقيون ما انطلق من ربوعهم من أنوار الحضارة والعمران وما تميزوا به من قدرات على الفعل الحضاري في إقليمهم وما يجاورهم من أقاليم، ويؤسسوا بذلك امبراطوريات كبرى امتدت من مصر غربا الى ايران شرقا الى تركيا شمالا الى الجزيرة العربية جنوبا. كل ذلك كان في فجر التاريخ وقبل بزوغ فجر الإسلام الذي بفضله احتضن العراق الحضارة العربية الإسلامية الكبرى في إطار الإمبراطورية العربية الإسلامية التي كانت لعدة قرون مركز التنوير والتقدم والإبداع والإشعاع الحضاري والعمران في العالم أجمع.
هكذا، إذن، تضافرت في العراق عوامل الجغرافية من أرض خصبة ومياه وفيرة ومناخ معتدل وتنوع كبير في التضاريس والمناخ وثروات معدنية هائلة وموقع ستراتيجي وسطي متميز على الطرق الموصلة بين الشرق والغرب وبين الخليج العربي ومصبه على بحر العرب والمحيط الهندي من الجنوب والشرق والبحر المتوسط من الشمال والغرب، مع عوامل التاريخ الذي شهد احتضان العراق امبراطوريات عظيمة وحضارات إنسانية رائدة ومكانة روحية عظيمة في مسيرة التوحيد لتنتج طاقات للفعل الحضاري الإنساني لاحدود لها.
وكان من الطبيعي أن تثير هذه الميزات العظيمة التي طالما تميز بها العراق شهية الأطماع الإستعمارية والتوسعية والغيظ والحقد ضد العراق لدى القوى المتوحشة والهمجية والطامعة والطامحة للتوسع ونهب خيرات وثروات الشعوب. لذلك حفل تاريخ العراق بالكثير من الغزوات الهمجية التوسعية الإستعمارية التي استهدفت إخماد شعلة الحضارة الإنسانية التي أوقدها العراقيون من خلال التدمير والتخريب والقتل والتشريد، ومن شواهدها القديمة غزوات هولاكو وتيمور لنك وملوك الفرس كورش والصفويين، ومن شواهدها الحديثة الغزو الأميركي- الإيراني . ولكن العراقيين لم يستسلموا أبدا، بل كانوا على الدوام يقاومون وينتفضون لكسر قيود الإحتلال والهيمنة الأجنبية الإستعمارية ونفض ما نشره المحتلون من غبار التخلف والظلام في ربوع بلاد الرافدين المشرقة أبدا. وكانوا يهبون في كل مرة كما العنقاء ليعودوا الى مسار الفعل الحضاري المؤثر في إقليمهم والعالم كله.
ورغم تلفع الغزوات الغربية للعراق بلبوس الحرية والديمقراطية الزائفة وتسلحها بشتى أدوات القتل والقمع والبطش و آليات الشر والفتنة والخبث والشرذمة إلا أنها لم تستطع ان تحد من توق العراقيين للحرية وللتخلص من الهيمنة الإستعمارية الأجنبية.
ورغم تلفع الغزوات الغربية للعراق بلبوس الحرية والديمقراطية الزائفة وتسلحها بشتى أدوات القتل والقمع والبطش و آليات الشر والفتنة والخبث والشرذمة إلا أنها لم تستطع ان تحد من توق العراقيين للحرية وللتخلص من الهيمنة الإستعمارية الأجنبية.
ومن ذلك ثورة العشرين من القرن الماضي على الإحتلال البريطاني الذي خلف الهيمنة التركية، تلك الثورة التي فرضت على المحتل البريطاني أن يسمح للعراقيين بالمباشرة ببناء دولتهم الحديثة بعد سبات طويل تحت الحكم التركي. وتوقع العراقيون أن تأخذ الدولة الوطنية بعين الإعتبار المصالح الوطنية المعبرة عن آمال وتطلعات الشعب العراقي وعلى أساسها ترسم سياساتها وخصوصا على الصعيد الخارجي. وبالفعل سعى الملك فيصل الأول وكثير من القادة الوطنيين العراقيين لتجسيد هذه المصالح في أهداف السياسة الخارجية للعراق. وبالوسع التأشير على عدد من المواقف التي اتخذت في علاقات العراق الخارجية والمعبرة عن المصالح الوطنية العراقية في الفترة بين تأسيس الدولة العراقية الحديثة في بداية العشرينيات وانطلاق الحكم الوطني حتى اواخر الستينيات من القرن الماضي، ومنها قطع انبوب النفط العراق المار عبر فلسطين الى حيفا بعد إغتصاب فلسطين عام 1948 , والتصدي للكيان الصهيوني عبر المشاركة القومية في الحروب العربية ضد الكيان الصهيوني في اعوام 1948 و 1967، والدعم السخي لثورة الجزائر، وتأسيس جيش التحرير الفلسطيني. غير أن الكوابح الكثيرة التي فرضها نفوذ بريطانيا الواسع في دوائر القرار السياسي في العراق وتدخلاتها في السياسة العراقية قبل ثورة 14 تموز 1958 وعدم استقرار الأنظمة الوطنية التي اعقبتها لعشر سنوات، فضلا عن عوامل أخرى لا مجال لتناولها هنا، حرمت العراق من أن يأخذ ما يستحقه من دور محوري كبير ومكانة سامية في المنطقة والعالم تؤهله لهما عناصر العبقرية والقوة التي اتحدت فيها عوامل التاريخ والجغرافية والطاقات البشرية الخلاقة، ما أدى الى أن يشوب السياسة الخارجية العراقية قبل ثورة السابع عشر من تموز/يوليو 1968 حالات مؤسفة عديدة من الضعف والتناقض والإنكفاء على النفس.
ولم تأخذ سياسة العراق الخارجية مداها الكامل في التعبير عن مصالح العراق الوطنية المجسدة لكل العوامل المكونة للكيان العراقي عبر التاريخ إلا بعد انطلاق ثورة تموز 1968 وبناء حكم وطني إستلهم كل هذه العوامل في المنهج الذي اختطه لبناء الدولة الوطنية العراقية الحديثة القوية المستقرة، وانعكس بالضرورة في سياسة العراق الخارجية.
ولم تأخذ سياسة العراق الخارجية مداها الكامل في التعبير عن مصالح العراق الوطنية المجسدة لكل العوامل المكونة للكيان العراقي عبر التاريخ إلا بعد انطلاق ثورة تموز 1968 وبناء حكم وطني إستلهم كل هذه العوامل في المنهج الذي اختطه لبناء الدولة الوطنية العراقية الحديثة القوية المستقرة، وانعكس بالضرورة في سياسة العراق الخارجية.
وعشية ثورة تموز 1968 كانت مبادىء السياسة الخارجية هذه بالنسبة للكثير من المثقفين البعثيين تتمثل بمؤشرات نظرية تقوم أولا على العمل الوحدوي على الصعيد القومي ومناهضة الأستعمار والأحلاف الإستعمارية وانتهاج سياسة عدم الإنحياز إزاء الصراع بين المعسكرين الغربي والإشتراكي مع التاييد الكامل للشعوب الثائرة على الإستعمار والصداقة مع دول المعسكر الإشتراكي. ولم تشهد هذه المبادىء بلورة فعلية تفصيلية إبان فترة حكم البعث القصيرة جدا عام 1963 في العراق التي لم تدم أكثر من تسعة أشهر فقط ، ولا في أثناء فترة حكم البعث في سورية التي دامت نحو ثلاث سنوات (آذار/ مارس 1963- شباط / قبراير1966) والتي كانت تعاني من المشاكل وعدم الإستقرارعلى مستوى القيادة.
ومنذ السنة الأولى للثورة، بدأت ملامح التوجه الجديد في سياسة العراق الخارجية بالظهور، وازداد هذا التوجه وضوحا مع استقرار النظام الوطني في الداخل والمباشرة بالخطوات العملية المجسدة لرؤيته لمصالح العراق الوطنية في مواقفه القومية والدولية. وتستند رؤيته هذه الى نظرة البعث لمصالح الأقطار التي يقود الدولة فيها في إطار مبادئه المتمثلة بالسعي لتحقيق وحدة الأمة العربية وتحررأقطارها من السيطرة الأجنبية وإطلاق طاقات جماهيرها بمنأى عن قيود الإستغلال والإستبداد والفقر والتخلف والظلم. ومنذ سني الثورة الأولى برز من بين قادة الثورة السيد النائب (آنذاك) صدام حسين باهتمامه المباشر، من خلال موقع الشخص الثاني على المستويين الرسمي والحزبي، ببلورة السياسة الخارجية لدولة العراق الوطنية على وفق التعبير الكامل عن المصالح الوطنية العليا لشعب العراق وبما يعكس كل عناصر القوة والمنعة المتمثلة بما يتمتع به الكيان العراقي من عوامل العبقرية التي أشرنا إليها في أعلاه.
وإعتبارا من عام 1972 أتاح النائب صدام حسين بوصفه مسؤولا عن مكتب الثقافة والإعلام الفرصة للخطين الأول والثاني من كوادر وسائل الإعلام والثقافة للقاء به على نحو شبه إسبوعي للإستماع منه والتداول معه بشأن قضايا العراق وكل ما يستجد فيه من أحداث فضلا عن رؤية القيادة وتحليلاتها للقضايا والأحداث العربية والدولية . ومن خلال هذه النافذة المهمة بدأت ملامح التوجه العراقي الجديد في السياسة الخارجية تطل على الجمهور العراقي والعربي من خلال وسائل الإعلام.
وقد ظهر التوجه الوطني العراقي الجديد في السياسة الخارجية العراقية في مسارين أساسيين هما : المسار العربي، والمسار الدولي الذي اشتمل على التعامل مع دول العالم الإسلامي والبلدان الغربية والبلدان الإشتراكية والبلدان النامية والموقف من حركات التحرر وسياسة عدم الإنحياز.
أولا : المسار العربي:
على هذا المسار اتضحت وتجسدت معظم ملامح هوية النظام السياسي الجديد في العراق. فالعراق جعل ينظر في ظل النظام الجديد الى مصالحه القطرية من منظور قومي كلي شامل يتمثل بالمصالح العربية العليا – ما يعد امتدادا لتاريخ طويل من الأدوار القومية المشرفة للعراق الذي تشرف باحتضان اكبر الأمبراطوريات وأبهى وأهم الإسهامات الحضارية التي بناها العرب والذي طالما تمسك منذ فجر التاريخ بمصالح العرب وقضاياهم منذ حملتي نبوخذنصر وحملة الملك الآشوري على مملكة اليهود في فلسطين العربية وحملة البطل العراقي صلاح الدين الايوبي على المستعمرين الصليبيين لأرض فلسطين الى دعم الشعب الفلسطيني والمشاركات الفاعلة لجيش العراق في كل الحروب العربية ضد الكيان الصهيوني وغيرها الكثير من الشواهد. وانطلق النظام الوطني في العراق في النهج الذي اتبعه في هذا المسار من الحقيقة الموضوعية الأساسية للوضع العربي المتمثلة بوحدة المصير العربي ووحدة المصالح القومية العليا للأمة العربية ، وبالتالي وحدة الأمن القومي العربي، وعدم امكانية عزل اية تهديد جدي لأمن إحدى الدول العربية عن التأثير في أمن الدول العربية الأخرى وبالتالي في الأمن القومي العربي بصورته الكلية. ومما يزيد هذه النظرة مصداقية وواقعية ويقدم كل يوم أدلة صارخة على صحتها أن القوى المعادية للعرب وهي بالتحديد الدول الإستعمارية الغربية واسرائيل وايران تتعامل مع الدول العربية ومع أمن كل منها انطلاقا من ذات الحقيقة، طبعا بالإتجاه المعاكس. فهذه القوى لم تتخل يوما عن ستراتيجية الإستعمار الذهبية "فرق تسد" ، وبنت كل سياساتها إزاء الدول العربية على السعي لمنع أي تقارب أو عمل وحدوي أو تضامني حقيقي بين الدول العربية، وعملت وما تزال تعمل بشتى الوسائل على زيادة الفرقة والتنازع والتباعد بين الدول العربية، بل أن هذه القوى تتضامن وتتعاون، رغم ما قد يعترض علاقات بعض أطرافها من خلافات، في ضرب اي نظام أو حزب أو تيار عربي وحدوي وفي شن حملات شعواء من التشويه والتشنيع والتبشيع ضده ورشقه بتهم النازية والفاشية والعنصرية والطائفية وتأليب الرأي العام المحلي والعالمي ضده.
لقد جعل النظام الوطني العراقي، منذ بداية الثورة، في صلب سياسة العراق الخارجية على المستوى العربي العمل على وفق أربعة خطوط أساسية. وتجسدت في تعامل العراق مع المستوى العربي، كما هي مع مثيله المستوى الدولي، حقيقة أساسية مهمة يكاد ينفرد بها العراق وهي أن حكومة العراق الوطنية لم تتعامل في هذا السياق بالخطابات والبيانات والأطر النظرية والتصريحات والمواقف السياسية حسب بل أقرنت كل ذلك وجسدته على أرض الواقع بأفعال وسياسات وخطوات مادية وتدابير حقيقية.
وخطوط المسار العربي لسياسة العراق الخارجية على المستوى العربي في العهد الوطني هي:
أولا – العمل بكل الوسائل المتاحة لدعم نضال الشعب الفلسطيني لتحرير فلسطين ومن ذلك الدعم العراقي السخي لفصائل المقاومة الفلسطينية، واتاحة فرص التدريب العسكري لمقاتليها في الأراضي العراقية، وبذل كل الجهود لتحصيل الدعم المادي لمنظمة التحرير الفلسطينية من الدول العربية في القمم العربية، ومقاومة التوجهات الإستسلامية لبعض الأنظمة العربية التي كانت تلهث وراء المشاريع والمبادرات الأميركية التي كانت وما تزال تخفي وراءها مخططات ترمي الى تمييع القضية الفلسطينية وتصفيتها وعزلها عن حاضنتها العربية والحفاظ على أمن الكيان الصهيوني ودعم مشاريعه التوسعية وحروبه العدوانية ضد الدول العربية. بل أن العراق بات يتعامل مع الأنظمة العربية قربا أو بعدا ليس بقدر تعامل هذه الأنظمة مع مصالح العراق القطرية، وإنما بقدر تعاملها مع القضية الفلسطينية؛
وثانيا -- السعي بكل الوسائل الممكنة لتحقيق أي مستوى ممكن من الوحدة أو التضامن مع الأقطار العربية. وعلى هذا المستوى عملت قيادة العراق على تحقيق الوحدة مع سورية ووقعت ميثاق العمل القومي مع الحكومة السورية عام 1978 لكنه انتهى بعد خلافات مؤسفة نشبت أواسط عام 1979، وسعى العراق مرة أخرى لتحقيق اطار من التعاون الشامل مع ثلاث دول عربية هي مصر والأردن واليمن وأفلح في جهوده عام 1989 بتشكيل التعاون العربي الذي إنهار بحدوث أزمة الكويت وانحياز نظام حسني مبارك الى جانب المخطط الأميركي لاستثمار الأزمة لضرب العراق ومحاصرته تمهيدا لغزوه واحتلاله بعد ثلاث عشرة سنة. كما عمل العراق على تدعيم أطر التعاون الثنائي مع دول عربية كثيرة ومتعددة الأطراف في إطار منظومة العمل العربي المشترك اتفاقية التعاون الإقتصادي العربي. وعقد النظام الوطني العراقي اتفاقيات السوق الإقتصادية المفتوحة مع سورية عام 1998 ، والكثير من اتفاقيات التعاون الإقتصادي مع الأردن. وبخصوص الأردن كان الرئيس الشهيد صدام حسين قد أمر بتقديم دعم مادي للأردن لتسوية الأزمة التموينية وما صاحبها من اضطرابات واسعة في معان في الثمانينيات. كما أمر الرئيس المرحوم بسد احتياجات الأردن الشقيق من النفط بكمية نصفها يقدم مجانا والنصف الآخر بأسعار مخفضة سدد الأردن أثمانها بالمنتجات الأردنية. وقدر المختصون في حينه الدعم المادي الذي يقدمه العراق الى الأردن بما يوازي 606 ملايين دولار سنويا طيلة فترة التسعينيات،
وثالثا -- التصدي للمحاولات الإيرانية المتواصلة في عهدي الشاه وخميني للهيمنة على الخليج العربية وتهديد عروبته واستقلال دوله. وكان العراق في طليعة الدول العربية التي وقفت ضد التهديدات التوسعية لنظام شاه إيران للبحرين وللإحتلال الإيراني للجزر العربية الثلاث العائدة لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي تمسكت بها وواصلتها سلطات نظام خميني الصفوي التوسعي رغم الغطاء الإسلامي الكاذب الذي اعتمره النظام لتمرير مخططاته القومية الفارسية التوسعية. كما وقف العراق بالمرصاد للتهديدات الإرهابية الإيرانية للكويت وشن سلسلة من الهجمات الصاروخية على تجمعات القوات الإيرانية ردا على المحاولة الإرهابية الإيرانية لأغتيال أمير الكويت،
ورابعا وأخيرا: التمييز الواضح بين الدول العربية من جهة وأنظمتها السياسية الحاكمة من جهة أخرى، أي التمييز بين الموقف من كل دولة عربية، وما يتصل بها من مقومات السيادة ووحدة الكيان السياسي والأرض والشعب ومصالحه الوطنية العليا، والموقف من نظامها السياسي ومدى بعده أو مناهضته لأهداف السياسة العربية للعراق.
وفي هذا السياق ، يذكر أحد أعضاء الوفد العراقي الى اجتماع وزراء الخارجية العرب اوائل عام 2003 في مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة أن الإجتماع شهد محاولة يائسة أخيرة من الولايات المتحدة لتمرير الحلقة الأخيرة من مشروعها لغزو العراق واحتلاله، من بوابة جامعة الدول العربية بعد أن أفشلت الدبلوماسية العراقية كل محاولاتها المحمومة في العامين 2001 و2002 للحصول على موافقة منظومة العمل العربي المشترك على مشروعها العدواني وتوظيفها في حشد التأييد الدولي للعدوان والحرب على العراق عبر الأمم المتحدة بما يساعدها في إضفاء شرعية دولية زائفة عليه، مثلما عملت (ونجحت مع الأسف) في التحضير للعدوان الإستعماري الثلاثيني الذي قادته على العراق 1990-1991.
فبعد محاولة من نظام حسني مبارك سربها عبر افتتاحية كتبها ابراهيم نافع رئيس تحرير جريدة الأهرام عشية عقد المؤتمر، وأحبطها رئيس الوفد العراقي وزير الخارجية الدكتور ناجي صبري، قبل عقد المؤتمر، بدأ رئيس وفد احدى الدول العربية الحديث في الإجتماع بما ينبىء عن رغبته في تناول الموضوع نفسه ولكن على نحو مخفف وشديد الحذر، فخاطبه الوزير العراقي مباشرة باسلوب جعله يخجل ويتوقف.
وهنا اندفع الوزير الأردني آنذاك مروان المعشر في حديث مراوغ يحمل ضمنيا المطالب الأميركية لاستسلام حكومة العراق الوطنية.
وبعد أن رد عليه وزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع طالبا منه أن يفصح عن غرضه ويكف عن اللف والدوران والمراوغة، تحدث الوزير العراقي قائلا: "لقد وقف العراق الى جانب جميع الدول العربية. لم تحتج دولة عربية من موريتانيا (وأشر بيده الى وفدها الذي يجلس عند بداية نصف الدائرة التي تجلس حولها الوفود من جهة الشمال) الى الأردن ( وأشر الى وفدها الذي يجلس في بداية نصف الحلقة من جهة اليمين) دعما ماليا إلا وكان مال العراق أمامها، ولم تحتج دولة منكم دعما عسكريا إلا وكانت أسلحة العراق أمامها، ولم تحتج دولة منكم دعما بالرجال إلا وكان رجال العراق أمامها. رغم كل ذلك نحن لا نطلب منكم مالا ولا اسلحة ولا رجالا ، فنحن والحمد لله لدينا الكثير من كل ذلك. كل ما نأمله أن لا يأتينا ضرر منكم، وأن لا يقف احد منكم مع مخطط الغزو الأمريكي للعراق والأعتداء على شعبه وأن لا تسهلوا مهمته سواء في اراضيكم أو بتبني مشاريعه". فدفنت المحاولة في مهدها واغلق الموضوع.
وما يهمنا هنا الإشارة الى جانب مهم في سياسة العراق الخارجية في العهد الوطني يقوم على تقديم الدعم للدول العربية بغض النظر عن علاقة ومواقف أنظمتها من الحكم الوطني في العراق. فلقد أحدث النهج الواضح والشامل والفعال الذي اختطته حكومة ثورة السابع عسر من تموز في التعبير من منظور قومي حقيقي عن مصالح العراق الوطنية في سياسته الخارجية على المستوى العربي فارقا نوعيا مهما وعلامة فريدة في السياسة العربية والعلاقات البينية العربية اللتين شهدتا منذ ظهور الدول العربية الحديثة في القرن العشرين حالات مؤسفة متكررة عمدت فيها دول عربية كثيرة الى القطيعة الكاملة وقطع كل علاقاتها السياسية والإقتصادية مع دول عربية أخرى لمجرد الإختلاف أو التنازع مع أنظمتها سياسيا. بل ذهبت أنظمة عربية بعينها أشواطا بعيدة في اتخاذ مواقف وسياسات تتناقض تناقضا صارخا ليس فقط مع ما كانت ترفعه من شعارات قومية بل مع أساسيات العمل العربي المشترك وكل متطلبات الأمن القومي العربي، وذلك في تعاملها مع دول عربية تحكمها أنظمة سياسية تختلف أو تتنازع معها سياسيا.
ولنا في موقف نظام العقيد القذافي السابق في ليبيا خير مثال على هذه الحالة. فبالرغم من عدم وجود أي نزاع بينه وبين النظام الوطني في العراق، فقد دفعه إختلافه السياسي مع البعث ومع الحكم الوطني في العراق الى أفعال من قبيل جرائم الحرب وأعمال الخيانة العظمى. فقد اعترف مسؤولون ليبيون سابقون فضلا عن نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام أن نظام العقيد القذافي قام بتسليح إيران بالصواريخ الروسية بعيدة المدى التي ضربت بها المدن العراقية وقتلت المئات من العراقيين، وزودها ببطاريات مضادة للجو للتصدي للطائرات العراقية وبمدربين لتدريب العسكريين الإيرانيين على استخدام هذه الأسلحة، كما أقام معسكرا في أجدابيا لتدريب متمردي عصابات برزاني وطالباني الإنفصالية المرتبطة باسرائيل، وفتح أبواب ليبيا لكثير من معارضي الحكم الوطني في العراق من المرتبطين بدول أجنبية منخرطة في اعمال التخريب والتآمر لغزو العراق ونهب خيراته وتدميره.
وقام عدد آخر من الأنظمة العربية وفي مقدمتها نظام آل صباح في الكويت باحتضان ودعم هذه العصابات الإنفصالية وغيرها من الجماعات المرتبطة بأجهزة مخابرات الولايات المتحدة وايران والعاملة ضد سيادة العراق ووحدة أراضيه وأمن وسلامة ومصالح شعبه الوطنية العليا.
يتبع
الجزء الثاني إن شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق