وجَّه فضيلة العلامة الشيخ عبدالملك عبدالرحمن السعدي الرسالة التالية إلى العراقيين المجاهدين الصابرين المرابطين في ساحات الاعتصامات في العراق ضمَّنها موقفه النهائي من تخويل الثوار له بالتفاوض مع السلطة الظالمة الغير شرعية..
بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا* إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا* لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) الأحزاب: 70-73.
مبادرة الشيخ السعدي في أزمة العراق
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة العراقيون الكرام : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعلمون جميعا أن المظاهرات قامتْ بدافع وطني شريف، لا تحمل طابعا سياسيا ولا طائفيا، ولا تتلقى دعما خارجيا، والمتظاهرون يطالبون بحقوق العراقيين عامة، لذلك حضرتُ إلى ساحة الاعتصام في الرمادي باعتبارها أُولى الساحات، على الرغم من ظروفي الصحية التي لا تسمح لي بالحركة، وألقيتُ خطابي الذي سمعتم، وسمعه العالم معكم، فكان الخطابُ موضعَ ارتياح جمهور الأطراف العراقية شعبا وحكومة؛ لأني دعوتُ فيه إلى مبادئ كثيرةٍ، كان من أبرزها المبادئ الآتية:
أولا- تأييد المتظاهرين في حقوقهم المشروعة تأييدا مطلقا، وحثهم على الصبر والثبات على المطالبة بها من دون تراجع.
ثانيا – دَعَوتُ إلى المحافظة على سلمية المظاهرات، ونَبذِ كلِّ أشكالِ العنفِ، وتركِ كل لفظٍ أو شِعارٍ قد تُفْهَمُ منه الطائفية، وقلت : الأنبارُ كلُّ العراقِ، والعراقُ كلُّ الأنبارِ.
ثالثا – دَعَوتُ الحكومةَ العراقيةَ إلى سرعة الاستجابة لحقوق العراقيين التي يطالبُ بها المتظاهرون، وعدم التسويف في تنفيذها.
وقد استجاب المتظاهرون لِما طلبتُهُ منهم في خطابي، فضربوا مثلا رائعا في سلمية المظاهرات، ورفعوا شعارَ التوحُّدِ والتآخي بين فئات العراقيين، وعدمِ التفريق بين قومية أودين أو مذهب، ولم يكن للمتظاهرين هدفٌ سوى تنفيذ حقوق جميع العراقيين التي طالبوا بها الحكومة العراقية.
وكانت ثقتي كبيرةً في أن الحكومة ستنفِّذ تلك الحقوق؛ إكراما لخطابي الوطني الذي يجمع ولا يفرِّقُ، ويُؤلِّفُ ولا يُنَفِّرُ؛ وإكراما لملايين العراقيين الذين تظاهروا في مُدُنِ العراق بكل خُلُقٍ كريم، وانضباطٍ حضاري كبير، حتى غلبَ على المظاهرات جانبُ العبادة من صلاة ودعاء وتكبير.
لكنَّ ثقتي بالحكومة تلاشتْ بخيبةِ أملٍ من خلال تعامل الحكومة مع المتظاهرين – مع كلِّ الأسفِ والمرارةِ – فقد تعاملتْ تعاملا لا يليق بحق العراقيين الشرفاء، فواجَهَتْهُم بالتهديد والألفاظ النابية المُسيئة، وضايقتهم بأنواع المضايقات، ولم تكترث بحقوقهم، وسوَّفـَتْ وماطلتْ، ولم تنفذ شيئا يُذكرمن الحقوق، ولم تُشعرالعراقيين بأي احترامٍ أو تقدير لهم.
بل إن الحكومة صعَّدَتْ من مضايقاتها للمتظاهرين بالأفعال قبل الأقوال، فأحكمتْ بقوتها وجيشها الخِناق على المتظاهرين، ووجَّهتْ السلاح إليهم فأوقعت فيهم الشهداء والجرحى، ومنعتْ وصول الطعام والماء إليهم، فصعَّد المتظاهرون من سقف المطالب وبعض الشعارات، مما حملهم على إحراق المطالب، من دون أن يُسيؤوا إلى مؤسَّسات عامة، ولم يعتدوا على قوة حكومية، ولم يغتصبوا مالا عاما أو خاصا ، ولم يُريقوا دما ولم يُزهقوا روحا، واندسَّ مأجورون في صفوفهم فأساؤوا إلى المظاهرات وأرادوا إخراجها عن سلميتها ليسهلوا للحكومة قمعها وإفشالها.
وإني أيها العراقيون الأماجد الشرفاء لم يساورني يأسٌ، ولم أتراجع عن مواقفي، ولا أزال أتأمل خيرا في كل الأطراف العراقية، فإنَّ عمومَ العراقيين أهلُ كرمٍ ونَخوة وشجاعة وإنسانية وإخوَّة وتلاحم، وبناءً على ذلك، وتحاشيا لفتنة عمياء قد تَحلُّ بالعراق فتأكلُ اليابسَ والأخضر، في بدايةٍ لا نهايةَ لها، أضع أمام شعبنا العراقي بكل طوائفه، وأمام الحكومة العراقية، ما سبق أن أعلنتُه في بياناتي السابقة، وهي المبادئ الآتية:
أولا – خطابي إلى المتظاهرين:
أقول لهم: خرجتم في سبيل الله تطالبون بحقوق مشروعة لإنقاذ العراق والعراقيين مما أصابه من دمار وخراب، فلكم ثوابُ اللهِ تعالى ورضَاه، وأكرِّرعليكم نصيحتي بالصبر والثبات على الحقوق، والمحافظة على سلمية المظاهرات، والتقيد بالألفاظ والشعارات التي توحِّد العراقيين ولا توحي بالطائفية ولاسيَّما في خُطب الجمعة، وأحثُّكم على إبعاد السياسيِّين عن منصة التظاهرات، وعدم الالتفات إلى التجاذبات السياسة بين السياسيِّين، الذين يهدفون إلى تحقيق مصالحهم من خلالكم.
وأُكرِّر القول بضرورة اتِّخاذ القرارات من داخل ساحات الاعتصام، ولا حاجة إلى تخويل طرف آخرَ للتفاوض نيابة عنهم ، فالمتظاهرون هم أصحابُ الشأن، وهم القادرون على تحقيق أهدافهم.
وبإمكان المُتظاهرين تفويض لجنة يرتضونها تُفاوض عنهم، تضم علماء دين من بينهم وشيوخ عشائر ورجال قانون من غير السياسيِّين من دون تفويض شخص واحد، ولا مانع لديَّ من التعاون مع هذه اللجنة.
وأُكرِّر الفتوى بتحريم سفكِ الدمِ العراقيِّ؛ لأنَّ سفكه جريمة كبرى يرتكبها أعداء العراق الذين صنعهم المحتل، ودعمتهم بعضُ القوى الدولية والإقليمية، وعدم الإساءة إلى أيِّ عراقي مَدَنيا كان أو عسكريا.
ومن حق المتظاهرين أنْ يدافعوا عن أنفسهم إذا شعروا بالخطر يداهمهم أو وُجِّهت النار إلى صدورهم، مع الحفاظ على ممتلكات العراق العامة والخاصة، وعدم السماح لمخرب ولا لِمُنْدَسٍ ولا لمُلثم ولا لمُثبطٍ أن يكون له مكان في ساحات الاعتصام.
وأدعوهم إلى إدامة الصلاة الموحدة في الجمعة وعدم الانسحاب منها؛ لأنَّ الأصل في مشروعيتها التوحُّد وعدم تعددها، والإنصات إلى الخطيب، وعدم التكبير أو الهتاف أثناء الخطبة فإن ذلك مفسدٌ لصحة الجمعة.
وأدعو المتظاهرين إلى التأكيد على وحدة العراق والتآخي بين العراقيين، وأن الطائفية مرفوضة، وأن الحقوق لجميع العراقيين.
ثانيا – خطابي إلى الحكومة والسياسيين في العراق:
أقول لهم: اتقوا الله في العراقيِّين، ولا تزجوا بهم في مصالحكم الشخصية والسياسية، وأوقفوا الإعدامات، والاعتقالات، والمداهمات، والتعذيب في السجون والاغتصاب لانتزاع الاعترافات الكيدية القسرية.
ولا تُنَمُّوا روح الطائفية في خطاباتكم، واتركوا وصف العراقيين بألفاظ بذيئة واتهامات لا صحة لها، وتجنبوا أساليب التهديد والترهيب، ولا تُفرِّقوا في تعاملكم بين العراقيين على أساس الدين أو المذهب أو القومية، وقدِّموا الخدمات للعراقيِّين الذين حُرِموا منها عقدا من الزمن بدلاً من هذا التنازع السياسي.
واعتذروا لعوائل الضحايا من الشهداء الذين سقطوا بنار الجيش في الفلوجة والحويجة والرمادي وغيرها على حدٍّ سواء، وقدِّموا الجُناة إلى العدالة لينالوا جزاءهم العادل، وعوِّضوا أهالي الضحايا بالتساوي، ولا تُفرِّقوا بين حالة وأخرى، فقد ساءني ما حصل من تمييز بعض الشهداء عن بعض يالاهتمام والتعازي والدعاء والمُطالبة بقاتليهم؛ مِمَّا يؤصِّل روح الطائفية في النفوس.
وإيَّاكم والمساس بالمتظاهرين جميعا ماداموا مُطالبين بحقوق العراقيِّين دون تمييز أو تهميش.
أيها العراقيون:
هذا ندائي إليكم جميعا، شعبا وحكومة، متظاهرين وسياسيين، وهو نداءٌ نابع من قلب مجروح على مايجري في العراق، ونداءٌ مستند إلى ما تقرره شريعتنا الإسلامية الغَرَّاء؛ مبتغيا في ذلك وجه الله تعالى؛ وإنقاذ العراقيين مما هم فيه من مأساة كبيرة، ولستُ مراعيا في ندائي هذا حزبا، ولا حكومة، ولا مكوِّنا، ولامالا، ولا جاها، فما عند الله خيرٌ وأبقى، وأيُّ ادِّعاء يطعن في هذا الذي أنا عليه، أويتقَوَّل زورا وبُهتانا، فإني أترك أمره إلى الله تعالى الذي يعلم السرّ وأخفى، وإني، كما عهدتموني، لا أخضع إلا لله الخالق، ولا أبيع ديني بدنيا زائلة في كل الأزمان والعهود، ولن يستطيع مخلوقٌ شراءَ ذمتي لصالح سياسة رعناء، أو لمخالفةٍ شرعيةٍ لا يُقِرُّها كتابُ الله ولا سنةُ رسوله.
وأقول لكم بمنتهى الصراحة: إن الحكومة إذا أصرّت على موقفها وعِنادها وعدم الاستجابة لحقوق العراقيين فربما أُفكِّر بالتزام الصمت وأترك الأمر لله ثم لأهل الحقوق فلم يبق عندي ما أقوله بعدما أعلنتُ بياناتي الصريحة في وسائل الإعلام ونشرتها في موقعي الإلكتروني، ومعذرة إلى ربي من ظلم الظالمين وافتراء المفترين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المكتب الخاص
الجمعة: 23/ جمادى الآخرة /1434هـ
2013/5/3
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق